عن الشاعر والمدينة

نشر في 03-04-2016
آخر تحديث 03-04-2016 | 00:01
 فوزي كريم تاريخ الشعر الأميركي بدأ متأخراً، لكن حداثته تساوت مع حداثة الشعر الإنكليزي في بريطانيا، على الخصوص. بدأ في توق ملح إلى تأسيس شعر أميركي مستقل عن الموروث الإنكليزي، والأوروبي، منذ وولت وتمان. ومع مطلع القرن العشرين ظهر بُناة حداثته بقوة، رغم أن إزرا ﭘاوند جاء لندن، ثم رحل إلى روما وأقام فيها، وأليوت أقام في لندن حتى وفاته، إلا أن البقية فضلت الثبات على تربتها، وفي الفضاء الجديد (روبرت فروست، وليم كارلوس وليمز، والاس ستيـﭬنس، هارت كريْن وماريان مور).

يمكن للمرء أن يميز صفتين لا تخلوان من غرابة في شخصيات جيل الحداثة هذا: السعي إلى إلغاء ما هو شخصي في نصهم الشعري، والفصل بين حياة الخبرة العملية، وحياة المخيلة داخل الخبرة الشعرية. كان أليوت موظف بنك، وستيـﭬنس مدير شركة تأمين، ووليمز طبيباً، ومور امرأة محافظة ترتاد الكنيسة، وتعيش مع أمها. على أن والاس ستيـﭬنس كان الأكثر تميزاً في هذا. فنزعتُه إلى الحداثة الشعرية متطرفة وبالغة التعقيد، في حين كانت حياته العملية محافظة داخل المؤسسة المالية.

الكتب والمقالات التي وضعت عن هؤلاء الرواد لا تُحصى بالتأكيد. ووالاس ستيـﭬنس (1955-1879) لا يقل إثارة عن ﭘاوند وأليوت. وآخر ما صدر عنه كتاب بعنوان "والاس ستيـﭬنس، نيويورك، والحداثة" (Routledge, London)، يقتصر على مقدار التأثير الذي أملته على شعره مدينة نيويورك، في سنوات إقامته فيها، أو قريباً منها، من 1900 إلى 1916، في مطلع شبابه. الكتاب في فصوله التسعة، وقد كتبت بأقلام متخصصين عدة، يلاحق الآثار المتنوعة التي تركتها هذه المدينة، في مطلع القرن العشرين، على مخيلة الشاعر الشاب في حقول فن الرسم، العمارة، الموسيقى، الرقص الكتب والمجلات... حتى مذاق الطعام الذي أكل، والنبيذ الذي شرب.

الكتاب تجوال ممتع في هذا الغنى الذي ينعم به شاعر شاب، يأتي نيويورك بعد تخرجه في جامعة هارفارد عام 1900، ليعمل مراسلاً، وفي مكاتب قانونية. وحين تتاح له فرصة زيارة عائلته عام 1904 يلتقي ألسي كاجيل الذي يتزوجها بعد علاقة متواصلة عام 1904. ثم في عام 1914 يبدأ ارتياد صالونات المثقفين ليلتقي شعراء، مثل كارلوس وليمز، وفنانين مثل ديكابيا ودوشامب وآخرين.

ستيـﭬنس في نيويورك بدأ شاعراً طموحاً، لكن دون شهرة حتى وهو في الخامسة والثلاثين. نشاطه تجاه الشعر متابعة وكتابة لم يجعله يسعى للنشر، بحكم حياة مضطربة في جانبها المعاشي. وإذا حاول فكتيب شعري يطبعه بمناسبة عيد ميلاد خطيبته. وكأنه يتشكك في مقدار صلاحية ما يكتب. في نيويورك لم يكن يخلو من إحساس بالوحدة، تفرضها المدينة الكبيرة "لأن في المدينة الكبيرة يعز الصديق... وعالم بلا أصدقاء حقيقيين ما هو إلا عالم قفر"، يكتب في إحدى رسائله لخطيبته.

كان يمتص رحيق حياة المدينة المتزاحمة بفعاليات الثقافة. وزبدة فعالياتها تتعين في الفكر. ولذا بدأ ستيـﭬنس يعتقد أن "الشعر لن يُغنيه أن يكون لغة وحدها، أو مزاجاً، أو كلاماً مجازياً، أو موسيقى أو انطباعاً، إذا كان يفتقد الجوهر الكامن للفكر".

كان كل حقل من فنون المدينة يسهم في خلق طبيعة قصيدته الجديدة. تقنيات الرسم (دوشانب، والتكعيبية. وبول كلي وسيزان فيما بعد وبصورة عميقة)، يقاربها مع تقنيات اللغة في التوجه التجريدي خاصة. تقنيات الموسيقى، بدءاً من "إيقاع" حياة المدينة ذاتها، إلى إيقاع وهارموني الصوت الذي يتدفق من العروض الموسيقية الدائمة. وكذلك فن الرقص، وفن العمارة. كل هذه الفنون النيويوركية يتتبع الكتاب أصداءها في لغة، وبنية، وموسيقى قصائد الشاعر. وفي هذا الفحص النقدي يكمن سحره، وسحر أية قراءة نقدية للشعر. خاصة حين يحدث هذا مع شاعر بالغ الصعوبة والتعقيد.

خرج ستيـﭬنس من نيويورك حين حصل على وظيفة جيدة في شركة التأمين في "هارتفورد"، مدينته الأصلية عام 1916. ولم يباشر نشر شعره الذي اشتهر به إلا حين بلغ الخمسين. مجموعته الكاملة صدرت في سنة وفاته عام 1955.

back to top