يريد «الإخوان» في تونس «التعاون» مع السلطة، ويتهمهم النقاد بـ«الرغبة في ركوب موجة الاحتجاجات الاجتماعية، في محاولة للعودة إلى الحكم»، لكنهم في مصر يعادون السلطة والدولة والمجتمع، وينخرطون في أنشطة عنفية، تستهدف إحداث الفوضى، لإسقاط النظام.

Ad

لقد مرت خمسة أعوام على اندلاع الانتفاضتين في كل من تونس ومصر، وجاء وقت يمكن أن تُجرى فيه جردة حساب، أو تُستخلص العبر.

تندلع التظاهرات وأعمال العنف والسلب في مناطق تونسية الآن، حتى إن الحكومة اضطرت إلى فرض حالة "حظر التجوال" على كامل التراب الوطني طوال ساعات الليل.

يقول المحتجون إنهم لم يلمسوا أي تطور إيجابي في حياتهم منذ وصل الرئيس السبسي إلى سدة الحكم، في انتخابات نزيهة قبل أكثر من عام، وهو الرئيس الذي تراجعت شعبيته تراجعاً حاداً وفق استطلاعات الرأي الموثوقة.

كنت في تونس قبل شهرين، وأمكنني الحديث مع الكثير من التونسيين البسطاء في الشارع والحديقة والمقهى والمتجر؛ وقد أثار انطباعي أن معظم هؤلاء لا يشعرون بالتفاؤل، وأن قطاعاً مؤثراً منهم يتحدث عن أيام زين العابدين بن علي بحنين.

قال لي أحد هؤلاء، وهو يعمل عاملاً في مطعم: "أيام بن علي كانت أفضل"، لكن عدداً من المثقفين الذين زاملتهم في ندوة كانوا أكثر تفهماً للأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد، وأغلبهم لم يفقد الأمل بعد في "إيجاد الطريق".

قبل أسبوعين، ألقى الرئيس السبسي، البالغ من العمر نحو 90 عاماً، خطاباً في الذكرى الخامسة لـ"ثورة الياسمين"، حيث اضطر أن ينفي أنه بصدد توريث الحكم أو رئاسة الحزب الحاكم (نداء تونس) لنجله حافظ.

حافظ السبسي خاض منافسات حزبية قوية، فاز خلالها بمنصب المدير التنفيذي لحزبه الذي يرأسه الوالد، وسط اتهامات من مراقبين وحزبيين بأن الرئيس تدخل من أجل توطيد الأمر لنجله.

لقد كانت محاولات التوطيد لهيمنة حافظ سبباً على الأرجح في انسحاب عدد كبير من الوزراء والأعضاء من الحزب؛ إذ رفض هؤلاء آلية "التوريث"، التي يتبعها السبسي على حد قولهم.

وبموازاة تلك الأزمة الحزبية الطاحنة، يسعى السبسي إلى مداهنة حزب النهضة "الإخواني"، وهذا الأخير بالذات لا يبالي بإجراءات التوريث التي يتهم بها السبسي، ولا يطرح غير احتمالات التقارب والمشاركة في السلطة.

لكن حالة حقوق الإنسان تتراجع بشدة في تونس، رغم أنها كانت البلد العربي الوحيد الذي اُعتبر بادرة إيجابية في طريق الثورات والتغيير.

تحذر منظمة العفو الدولية من "خطورة العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع في البلاد قبل خمس سنوات"، وترصد زيادة في عدد الوفيات أثناء الاعتقال، كما تنتقد قانون الإرهاب، الذي ينص على إمكانية اعتقال المشتبه فيهم لمدة 15 يوماً دون الاتصال بمحام.

ليست هذه كل الأخبار السيئة، إذ تزيد الاضطرابات التي تشهدها البلاد راهناً الطلب على الأمن، فتتكرس سلطته، ويتم التهوين من تجاوزاته، وتكون الأحكام التسلطية والمنحى الاستبدادي بديلاً مقبولاً عن الفوضى.

الأوضاع الحقوقية في تونس سيئة، لكنها أشد سوءاً في مصر بكل تأكيد؛ فقد زادت حالات "الاختفاء القسري"، وقمع الصحافيين، وما زال الحظر مفروضاً على التظاهر، في ظل تصاعد التحدي الإرهابي، الذي بات يضرب رجال الجيش والشرطة والمدنيين في حرب مفتوحة شرسة.

يريد "الإخوان" في تونس "التعاون" مع السلطة، ويتهمهم النقاد بـ"الرغبة في ركوب موجة الاحتجاجات الاجتماعية، في محاولة للعودة إلى الحكم"، لكنهم في مصر يعادون السلطة والدولة والمجتمع، وينخرطون في أنشطة عنفية، تستهدف إحداث الفوضى، لإسقاط النظام.

في شهر يناير الجاري، استهل البرلمان المصري جلساته بعرض مخيب للآمال، هيمنت عليه الفوضى، استكملت مصر بهذا البرلمان استحقاقات "خريطة طريق المستقبل"، التي تم إعلانها غداة إطاحة حكم "الإخوان"، وباتت سلطاتها الدستورية مكتملة، لكن البرلمان الذي أتى عبر انتخابات لم يتم التشكيك في نزاهتها الإجرائية، يعاني اتهامات قاسية بهيمنة المال السياسي وشراء الأصوات على الطريقة التي أتى بها معظم أعضائه.

قبل أسبوع، عدت من الخارج عبر مطار القاهرة فجراً، حيث ألح عليّ شاب أن يقلني إلى بيتي بسيارته الخاصة مقابل تخفيض في الأجرة مقارنة مع شركات "التاكسي" المعتمدة.

قال الشاب إنه خريج تجارة، لكنه التحق بالعمل في السياحة منذ 2007، حيث تمتع بدخل عال سمح له بالزواج وشراء شقة وسيارة، قبل أن "تضرب الثورة أحلامه"، فيضطر إلى أن يتحول إلى سائق تاكسي، ولم ينس بالطبع أن يؤكد لي أنني "أول زبون" منذ مطلع الليل.

المطالب الاجتماعية ستكون عنوان الحراك المقبل في كل من تونس ومصر، والحكومات الفعالة القادرة على تحقيق الاختراقات الاقتصادية وتلبية مطالب الأجيال الطالعة هي التي ستنجح في تحقيق الاستقرار.

ورغم وجاهة المطالب الديمقراطية والحقوقية وضرورتها، فإن الطلب عليها سيتراجع، ففي شهر نوفمبر من عام 2013، أتيحت لي فرصة زيارة عدد من دول أوروبا الشرقية التي خرجت من تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي السابق عبر ثورات وانتفاضات تاريخية.

كانت إحدى تلك الزيارات لبولندا، حيث أمكنني مقابلة الكاتب الكبير آدم ميشنك أحد أبرز المثقفين المناضلين ضد الحكم الشيوعي، سألت ميشنك، الثوري المخضرم، بم تنصحنا في بلدان التغيير العربي؟ فقال: إنه بدأ بالتظاهر والاحتجاج ضد النظام الشيوعي السابق في عام 1968، وإنه كثف من نضاله وكفاحه ضد السلطة في النصف الثاني من السبعينيات، وهو النضال الذي دفع بسببه ست سنوات من عمره قضاها في السجون.

وأضاف ميشنك أن ذروة الاحتجاجات التي شهدتها بلاده كانت في الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الاحتجاجات التي نجحت في إسقاط النظام، لتبدأ بلاده في مرحلة تحول ديمقراطي، استمرت أكثر من عقدين.

يرى ميشنك أن بولندا لم تحقق تحولاً ديمقراطياً كاملاً حتى اللحظة الراهنة، وأن ديمقراطيتها تتعرض لضغوط، وأن أمام شعبه الكثير من الجهد والعمل لكي يصبح في مصاف الدول الاسكندنافية مثلاً، والتي بدأت تحولها الديمقراطي منذ أكثر من مئة عام.

لكن ميشنك يرى أن أبرز خطر هدد بلاده كان "خطر البلقنة"؛ أي أن تنهار الدولة وتتفكك وتغرق في الفوضى، وأنه سعى، ورفاقا له، إلى مواجهة مثل ذلك الخطر في كل الأوقات، ويوصي بالصبر، وعدم استعجال قطف الثمار، وعدم الانزلاق إلى الفوضى.

* كاتب مصري