الإصلاح الاقتصادي والمالي... كيف؟
الإصلاح الاقتصادي والمالي الحقيقي والعادل ليس قرارات متسرعة تتبنى التوجه النيوليبرالي المنحاز لمصالح الأثرياء، بل هو حزمة متكاملة ومترابطة من الإصلاحات العادلة التي تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وتبدأ بعملية تصحيح الاختلالات الهيكلية الرئيسة في البنية العامة للاقتصاد الوطني، وفي مقدمتها تغيير نمط الاقتصاد من ريعي، كما هي الحال حالياً، إلى إنتاجي وهو ما سينقل المجتمع نقلة نوعية فيحوّله من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج، كما يحوّل القطاع الخاص من قطاع ضعيف وطفيلي يعتاش على الإنفاق العام إلى إنتاجي حقيقي ومبادر يساهم مساهمة فعلية في عملية التنمية، وزيادة معدل الناتج المحلي الإجمالي، ويقوم بمسؤوليته الاجتماعية كاملة، فيدفع ضرائب تصاعدية على الأرباح، ويخلق فرص عمل جديدة للعمالة الوطنية، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تخفيف العبء عن القطاع الحكومي، وبالتالي عن الميزانية العامة للدولة. الإصلاح الاقتصادي الحقيقي لا بد أن يعالج مشكلة التركيبة السكانية المُختلة حالياً لمصلحة غير المواطنين (معظمهم يعملون في القطاع الخاص)، ويُصلح هيكل العمالة بحيث تكون النسبة الكبرى من المواطنين، فضلا عن تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة الوطنية، وأيضا تحويل الميزانية العامة للدولة إلى ميزانية برامج وخطط تنموية يتم إقرارها لعدة سنوات قادمة، بحيث لا يمكن تعديلها أثناء عملية التنفيذ إلا بقانون.
ولكن السؤال المهم هنا هو: هل من الممكن القيام بالإصلاح الاقتصادي والمالية العامة للدولة من دون إصلاح سياسي-ديمقراطي ضمن مشروع وطني لدولة مدنية ديمقراطية يفتح المجال للمشاركة الشعبية الواسعة والفاعلة في إعداد الخطط التنموية، وصنع السياسات الاجتماعية-الاقتصادية واتخاذ القرارات العامة، بحيث يلتف حوله الجميع، ثم يتحملون تبعاته ونتائجه السلبية في حال فشله، فضلا عن تسهيل عملية إصلاح الإدارة العامة وإعادة هيكلتها بشكل جذري وشامل؛ كي تكون مؤهلة وقادرة على القيام بتنفيذ متطلبات الإصلاح الاقتصادي-المالي؟ السؤال بصيغة أخرى، هل باستطاعة منظومة سياسية يتخذ فيها القرار العام مجموعة صغيرة داخل غرف مغلقة، ويستشري في مفاصلها الفساد المؤسسي، أن تنجز بنجاح الإصلاح الاقتصادي الحقيقي؟ الجواب هو بالنفي طبعاً، فـ"فاقد الشيء لا يعطيه" كما يقول المثل، هذا ناهيك عن أنه من الوهم توقع أن يقبل الناس بشكل دائم تحمّل نتائج خطط وسياسات وقرارات لم يشاركوا في إعدادها وصياغتها واتخاذها.من هذا المنطلق فإن الإصلاح السياسي المدني الديمقراطي الملتزم بالدستور ينبغي أن يسبق، كما ذكرنا في هذه الزاوية مراراً وتكراراً، الإصلاح الاقتصادي-المالي الذي تتحدث عنه الحكومة بكثرة هذه الأيام، وإلا فإن ما ستقوم به لن يتعدى مجموعة قرارات منحازة هدفها النهائي هو التفتيش في جيوب المواطنين من أصحاب الدخول المتوسطة والمتدنية عن أموال كي تضعها في أرصدة الأثرياء!بعبارات أخرى فإن الحكم المدني الديمقراطي الصالح والرشيد هو وحده القادر على القيام بإصلاح اقتصادي ومالي عادل يحقق العدالة الاجتماعية، ويستثمر إمكانات المجتمع البشرية والمادية كافة من أجل تطويره للأفضل وتحقيق التنمية الإنسانية المستدامة، أما خريطة طريق الإصلاح السياسي الديمقراطي، ومن ثم الاقتصادي-المالي العادل فهي واضحة ولا تحتاج إلى إعادة اختراع العجلة كما يقال، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية تعترف بأخطاء الماضي وتلتزم بتصحيحها، ثم تقوم بتفعيل المؤسسات الدستورية وتوسيع قاعدة المشاركة الديمقراطية بدلاً من عملية التراجع المؤسف وإضاعة الوقت الثمين بالدوران في حلقة مُفرغة.