«حكاية مقاهي الصفوة والحرافيش»... ظاهرة مكانية صنعت إبداعاً على مرّ العصور

نشر في 22-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 22-01-2016 | 00:01
No Image Caption
صدر أخيراً عن الهيئة العامة المصرية لقصور الثقافة كتاب «حكاية مقاهي الصفوة والحرافيش» للكاتب والشاعر عيد عبد الحليم، حيث تناول التغيرات الشكلية والجوهرية في بنية شكل المقهى، وأهميته كإحدى الظواهر المكانية المهمة في صناعة نجوم الأدب والفن والفكر العربي، وتراجع تأثيره مع دخول عناصر ترفيهية تنتمي إلى ثقافة العولمة والإنترنت.
لفت المؤلف عيد عبد الحليم في كتابه «حكاية مقاهي الصفوة والحرافيش» إلى مكانة المقهى في حياة الشعوب، وأهميته الاجتماعية والثقافية، وبما يعنيه من قيم إنسانية قائمة على التلاقي والحوار، مشيراً إلى طاولاته التي شهدت علاقات أدبية وفنية وسياسية، ومولد أعمال ساهمت في تطور فنون الإبداع المختلفة، حتى بات المفهى وثيق الصلة بظهور شعراء وروائيين وباحثين وفنانين في مختلف أرجاء عالمنا العربي.

كذلك ورد ذكر المقهى في كتاب «وصف مصر» لعلماء الحملة الفرنسية في القرن التاسع عشر، بأنه مكان رحب متسع، مبني عادة من طابق واحد، ويتميز بالهندسة المعمارية الإسلامية في الزخرفة، وتنعكس آثارها على صناعة أبواب ونوافذ وسقوف وأعمدة المقاهي، ويجلس الناس فيه على «مساطب» مفروشة بالحصر، وكانت تكعيبات العنب ونباتات الزينة تحيط دائماً بالواجهة.

في العقود الثلاثة الأخيرة، تنامى اهتمام المصريين بالمقاهي، وبلغ عددها فقط في القاهرة نحو 42 ألف مقهى، وفق إحدى الدراسات في عام 2001، وتحول معظمها إلى مشاريع تجارية تدر أرباحاً طائلة لأصحابها، وانعكست التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أشكالها، فمن المقهى التقليدي بمقاعده وطاولاته إلى {الكوفي شوب} و{مقاهي الإنترنت}.

 أورد المؤلف مقولة الكاتب الكبير نجيب محفوظ عن علاقته بالمقاهي: {طوال عمري أعشق المقاهي وندواتها. حتى أن قصصي لا تخلو منها، فالحياة هنا.. ومن هنا يبدأ التاريخ}. وكان لصاحب نوبل مقاهيه المفضلة، والتقى فيها مع أصدقائه {الحرافيش} وأدباء جيله توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عفيفي وعادل كامل، ومنها {متاتيا} و{ريش} و{علي بابا} بالقاهرة، و{بترو} و{تريانون} بالإسكندرية.

 وظهر المقهى كبطل درامي في عدد كبير من أعمال محفوظ، مثل {زقاق المدق} و{خان الخليلي} والثلاثية الشهيرة {بين القصرين} و{قصر الشوق} و{السكرية} و{الكرنك}، واحتفت كلها بالمقهى كعنصر جوهري، وفضاء يتسع لنقد السلبيات الاجتماعية والسياسية لمراحل فارقة في تاريخ مصر، وكانت تعد البطل الرئيس للنص، يرتاده مثقفون وساسة وطلبة جامعات وأنماط اجتماعية مختلفة.

هوس المقاهي

أشار المؤلف إلى انتشار هوس المقاهي بين معظم سكان العالم، ومنها {المقاهي الباريسية} ذات الطابع الكلاسيكي، لا سيما {مقاهي الحي اللاتيني}، وفي بكين مقهى {لاوشا} الشهير، حيث يجلس رواده إلى طاولات مربعة، ويأكلون بذور عباد الشمس وبعض الأطعمة الخفيفة، ويشاهدون عروض الفنون الشعبية على أحد المسارح المقامة أمام المقهى.

وتذكرنا هذه الصورة بالمقاهي المصرية في مطلع القرن العشرين، مثل {الفيشاوي} و{أوبرا} وغيرهما، وكانت تقدم أمامها عروض {الحكواتي} و{المحبظاتية} و{الغناء الشعبي} و{الأراجوز}، وتطور الأمر بتحول أرصفتها إلى مسارح لعروض أشهر نجوم التمثيل والغناء، أمثال عبده الحامولي وفاطمة رشدي ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وأم كلثوم وعبد الوهاب.

كذلك يعد مقهى {الفيشاوي} مزاراً لمشاهير العالم العربي، ويتميز بموقعه الفريد في قلب القاهرة الفاطمية، وفي عصره الذهبي ارتادته مجموعة متفردة من الأدباء، ومنهم الشعراء بيرم التونسي وحافظ إبراهيم وعبد الحميد الديب، والزجال مصطفى حمام، والملحن زكريا أحمد.

وزارت الفيشاوي شخصيات سياسية بارزة، وملوك وزعماء ورؤساء دول، من بينهم {أوجيني} إمبراطورة فرنسا، وهي زارت مصر، وشاركت مع الخديوي إسماعيل في افتتاح قناة السويس، وشهدت الاحتفال الأسطوري، وبعدها طلبت زيارة الآثار الفاطمية في حي الجمالية، وجلست في المقهى، وتناولت الشاي الأحمر.

 

المقاهي العربية

كذلك حفل الوطن العربي بمجموعة من المقاهي الأدبية الشهيرة، ومنها مقهى «تحت السور» في تونس، و{النجار» و{الفتوح» و{الجنوب» و{متري» في لبنان، و{الكمال» في سورية، و{أم كلثوم» والزهاوي» في العراق، وكان يرتادها مشاهير الأدباء مثل محمد مهدي الجواهري، ومعروف الرصافي.

أوضح المؤلف أن مقهى «متاتيا» في القاهرة، ارتبط برواد النهضة في العصر الحديث، وعلى مقاعده وطاولاته الخشبية جلس كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم ومحمود سامي البارودي وغيرهم من قادة الفكر وزعماء السياسة والشعراء والأدباء.

شهد «متاتيا» تحولات عاصفة في تاريخ الحركة الفكرية والسياسية المصرية، وتزايدت شهرته بعد سنوات من إنشائه في منتصف القرن التاسع عشر، بقدوم الأفغاني، وتحول مجلسه إلى حلقة للدرس، وارتاده كبار علماء الأزهر وشخصيات تنويرية بارزة، وجمعتهم عاطفة وطنية متحررة، وتوق إلى تحرير مصر من الاحتلال البريطاني.

انضم «متاتيا» إلى قائمة المقاهي المندثرة، واختفى مع مقهى «عبدالله» الشهير بميدان الجيزة، وذلك في النصف الأخير من القرن الماضي، وبقيت أصداء حكايات الطاولات والمقاعد متهالكة، ومجالس أشهر أدباء ونقاد الخمسينيات والستينيات، ولقاءات جمعت بين د. محمد مندور ومحمود السعدني ونعمان عاشور وزكريا الحجاوي وجليل البنداري وغيرهم.

انتهى المؤلف إلى ارتباط الأجيال الجديدة بعدد من المقاهي في وسط القاهرة، ومنها «ستراند» و{البستان» و{الحرية» وظهور تغيرات شكلية وجوهرية في بنية وشكل المقهى، وتنامي العناصر الترفيهية، وموجات الصخب التي تنتمي إلى ثقافة العولمة والإنترنت. 

back to top