القضية الأساسية التي ينبغي التوقف أمامها ومناقشتها بشكل جدّي ومسؤول، هي إصلاح النهج السياسي-الاقتصادي الحالي للوصول إلى نظام سياسي-اقتصادي ديمقراطي وعادل يحقق مشاركة شعبية فعلية وواسعة في إدارة المالية العامة للدولة.

Ad

تفاصيل مظاهر الخلل الأساسي الذي أدى إلى العجز المالي في ميزانية الدولة كثيرة ومتشعبة، مثلما هي تفاصيل أماكن الهدر المالي الرهيب، أو تفاصيل الترشيد الحقيقي للإنفاق العام الذي يبتعد عن التفتيش في جيوب المواطنين بحثا عما يزيد أرصدة كبار الأثرياء.

التفاصيل مهمة، من دون أدنى شك، إلا أن معرفتها أو الحديث المتكرر عنها بحد ذاته لا قيمة له ما لم تتم الإشارة مباشرة إلى الخلل الأساسي ثم المطالبة الجادة بتغييره، وهو، في هذه الحالة، التوجه الاقتصادي العام الذي تتبناه الحكومة، كما تبين الوثائق الرسمية في "خططها" ومسارها الاقتصادي حتى عام 2035، وهو توجه اقتصادي رأسمالي نيوليبرالي يطبّق "روشتة" صندوق النقد الدولي.

 وقد سبق أن أشرنا إلى مرتكزاته الأساسية ومشاكله، حيث إنه سبّب، نتيجة انحيازه الاجتماعي لمصلحة كبار الأثرياء ولا يزال يسبب، الكثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في دول عدة في العالم من ضمنها دول عربية، وهي تونس ومصر، بالرغم من أنه قد سبق أن أشاد صندوق النقد الدولي بنموهما الاقتصادي، وذلك قبيل اندلاع الثورات الشعبية هناك عام 2011 التي كانت مطالبها واضحة وهي "حرية، عيش، كرامة، عدالة اجتماعية"، مما يعني أن النمو الاقتصادي الذي تحدث عنه صندوق النقد آنذاك كان نموا مشوهاً، وغير عادل اجتماعياً.

ومن المفترض ألا نقع في المشاكل المُعقّدة ذاتها التي سبق أن وقعت فيها دول تبنت النهج الاقتصادي النيوليبرالي المتوحش، خصوصاً أنه لا تنقصنا ثروة مالية تجعلنا نُجبر، كما بعض الدول، على الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الرأسمالية الأخرى، ناهيك عن أن هناك بدائل اقتصادية متطورة وأكثر إنسانية وعدالة اجتماعية.

 أما إصرار الحكومة على تبني التوجه الاقتصادي النيوليبرالي فهو يبين وجهة انحيازها الاجتماعي، وما يترتب على ذلك من سياسات اقتصادية ومالية منحازة في توجهها العام ضد مصالح الفئات الوسطى والشعبية، إذ ترتكز على تخفيض الدعم الاجتماعي الضروري، وتحرير الأسعار، ودعم القطاع الخاص، وفرض ضرائب ورسوم جديدة، والخصخصة الشاملة والسوق المنفلتة والمتوحشة.

ومن هنا، فإن القضية الأساسية التي ينبغي التوقف أمامها ومناقشتها بشكل جدّي ومسؤول، هي إصلاح النهج السياسي-الاقتصادي الحالي للوصول إلى نظام سياسي-اقتصادي ديمقراطي وعادل يحقق مشاركة شعبية فعلية وواسعة في إدارة المالية العامة للدولة، وفي تحديد أولويات الميزانية العامة وتوجهاتها، ويحقق أيضاً العدالة الاجتماعية التي تعتبر العامل الحاسم في قضية الأمن الاجتماعي-السياسي.

 أما التوقف فقط عند مظاهر الهدر المالي المسؤولة عنه الحكومة والذي تسبب في عجز مالي فلن يؤدي إلى إصلاح سياسي-اقتصادي حقيقي وجذري، ناهيك عن أن الحديث عن مظاهر الهدر المالي حديث طويل لا ينتهي، فهي كثيرة ومتشعبة، أو كما يقول المثل الشعبي "عدّ وخربِط"، طالما استمر النهج السياسي-الاقتصادي ذاته الذي سبب اختلالات هيكلية في اقتصادنا الوطني، وهدر الثروة وسوء توزيعها، حيث يفترض ألا نواجه عجزاً في الميزانية العامة، فالفوائض المالية التي تراكمت خلال العقد الأخير تقدرها بعض المصادر بنحو 80 مليار دينار، فأين ذهبت؟!