9 روائيين اعترفوا بعمر يضيع في مسودّات: {بيت حافل بالمجانين}... الكتابة أيضاً عمل شاق

نشر في 20-03-2016 | 00:01
آخر تحديث 20-03-2016 | 00:01
أحد أكثر الكتب الصادرة أخيراً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» أهمية، ويستحق منا الاهتمام والمتابعة، «بيت حافل بالمجانين حوارات باريس ريفيو»، مع تسعة روائيين كبار حول العالم، من بينهم الروائي المصري الحائز جائزة «نوبل» في الأدب نجيب محفوظ، لأنه يتضمّن لأول مرة، حكايات مؤلمة عن عادات الكتّاب وخبراتهم النادرة مع فنون الإبداع وكيفية إنتاج عمل أدبي، تبدو الثقافة العربية بحاجة إليها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، حيث يعترف كثيرون منهم بأن الكتابة فعل عسير، يحتاج إلى صبر لا مثيل له، كأنهم يقولون إن الكتابة عمل شاق جداً.
تضمّن كتاب «بيت حافل بالمجانين حوارات باريس ريفيو»، الذي أخرجه فنياً وصمم غلافه الفنان التشكيلي أحمد اللباد، ترجمة لتسعة حوارات، من بين عدد هائل من حوارات أجرتها المجلة المرموقة على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، واختار المترجم من بينها حوارات مع الكتّاب: أرنست همنغواي وهنري ميلر وبورخيس وكارلوس فوينتس وميلان كونديرا وبول أوستر وسوزان سونتاج وأمبرتو إكو، والمقدمة كتبها التركي الحاصل على نوبل في الأدب أورهان باموق. وترجم الكتاب إلى اللغة العربية الشاعر المصري أحمد شافعي، مدير تحرير مجلة «عالم الكتاب» الصادرة عن «الهيئة المصرية العامة الكتاب».

الحق أن لغة المترجم الجميلة، أدت دوراً رائعاً في نقل الحوارات إلى العربية، بطريقة تأخذ في الاعتبار أن بعضها يرقى إلى مستوى نص أدبي عميق، حيث صمّم بعض الأدباء على الحوار بالمراسلة، بينما لا يزيد بعضها الآخر على كونه مجرد «دردشة»، إنما لا تخلو من معلومات قيمة، بشأن طريقة كل كاتب في الجلوس لكتابة أعماله، وأسلوبه في استحضار «شياطين الكتابة»، إن جاز لنا التعبير. فقد سمح اللقاء مع الصحافي في منزل بعض هؤلاء الكتّاب، لحوارات عدة، بأن تعكس جانباً حياتياً من شخصية الكاتب وأهم الكتب التي تضمها مكتبته، كذلك سمح بتوجيه أسئلة شخصية جداً من عينة:

«ما كم إعادة الكتابة الذي تقوم به؟ هل إعادة القراءة هي التي ترفع نسبة» العصارة «فيك؟ بأية طريقة تكتب على الآلة الكاتبة مباشرة أم باستخدام الأوراق والأقلام؟ كم قلم رصاص يمكن أن تستهلك في اليوم؟

المبهر في الكتاب أن المبدعين التسعة تقريباً اختلفوا في كل شيء، لكنهم اتفقوا على أمرين، أعتقد أنهما سيدهشان كثيراً من المبدعين العرب، الأمر الأول أن أفضل وقت للكتابة، بين كل ساعات اليوم، يكون في الصباح الباكر، ما يعني الاستيقاظ مبكراً جداً وبدء الكتابة عند مطلع الفجر تقريباً، وهو ما لا يحدث في أوساط المبدعين العرب، والأمر الثاني أن إنجاز رواية بالنسبة إلى الروائيين عمل شاق جداً، قد يستغرق كثيراً من المراجعة وقراءة المسودات مراراً وتكراراً، لدرجة أن أرنست همنغواي قال في حواره المنشور في الكتاب بوضوح صادم: «كتبت الصفحة الأخيرة من روايتي «وداعا للسلاح» تقريبا 39 مرة، قبل أن أرضى عنها»، ما يعكس نوعاً نادراً من الدقة، ربما لم يعرفه كثير أجيال من المبدعين العرب، لا الجيل الحالي وحده.

«تدفعنا الشياطين»

اختار المترجم نصاً افتتاحياً بعنوان «تدفعنا الشياطين» كتبه الروائي التركي، الحائز جائزة «نوبل»، أورهان باموق، سبق أن نشر كمقدمة افتتاحية، لكتاب صدر عام 2007، بعنوان «حوارات دي باريس ريفيو 2»، الأمر الذي يعكس شغف كثيرين من قراء الحوارات حول العالم، ويلقي الضوء على تأثير هذه الحوارات في كاتب من الثقافة التركية، والذي اعترف بدوره في المقدمة، بأنه كان يعود إلى هذه الحوارات ليشدّ من عزمه من ناحية، وليستكمل معارفه بفنون الكتابة، نظراً إلى ما تتضمّنه من حديث حول العادات المختلفة والأفعال التي تمارس قبيل وأثناء الكتابة وبعدها، ويستشهد بعبارة الروائي الأميركي وليم فوكنر، الذي أجاب بها حين سئل كيف يصبح المرء روائياً جاداً:

«تسعة وتسعون بالمئة من الموهبة، تسعة وتسعون بالمئة من النظام، تسعة وتسعون بالمئة من العمل. عليه ألا يشعر أبدا بالرضا عما يفعل، فالعمل لا يصل أبداً إلى الجودة التي يمكن أن يكون عليها. لا تكف عن الحلم، واطمح إلى أعلى مما تحسب أنك قادر على تحقيقه، على ألا تقصر اهتمامك على أن تبز معاصريك أو أسلافك، حاول أن تتفوق على نفسك. الفنان خالق لكنه خالق تدفعه الشياطين، وهو لا يعرف لماذا اختارته هو بالذات».

فكرة الحوارات تقوم في الأصل، على هدف من الحوار الذي كان يقوم به عادة أدباء وصحافيون شبان، وهو أن يشرح الحوار من جوانب مختلفة طريقة عمل الكاتب، لذلك جاءت تحت عنوان «كتاب يعملون»، وهي طريقة يقول المترجم إنها اتبعتها المجلة، بأن يتيحوا للكتاب أنفسهم فرصة للحديث عن أعمالهم، فكانت سلسلة الحوارات فرصة نادرة تتيح للكتّاب مناقشة حياتهم وفنهم بإسهاب، قد يكون أرقى كثيراً من إسهاب النقاد حول هذه الأعمال بالذات.

يقول باموق صراحة: «وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما حتى الآن، ظللت أكتب على ورق الرسم البياني. في بعض الأحيان، أتصوّر أن السبب في ذلك أن ورق الرسم البياني يناسب طريقتي في الكتابة، في أحايين أخرى أتصور أن السبب أنني عرفت في تلك الأيام أن اثنين من كتّابي المفضلين هما توماس مان وجان بول سارتر، يستعملان هذا النوع من الورق».

وعلى طريقة استحضار الشياطين الإبداعية، اعترف أرنست همنغواي، بأنه حينما يعمل على كتاب، أو قصة، يكون بحاجة إلى أن يتركه الناس بمفرده، لافتاً إلى أن أفضل أنواع الكتابة يأتي وأنت في حالة حب، وقال: «أكتب كل صباح بمجرد أن يظهر أول ضوء، قدر الإمكان، تبدأ في السادسة صباحاً، وقد تستمر إلى الظهر، أو تنتهي قبل ذلك، وعندما تنتهي تكون فارغاً أو كالفارغ، إذ إنك في الوقت نفسه تكون ممتلئا، كما يحدث لك بعد أن تكون مارست الحب مع شخص تحبه، حيث لا شيء يمكن أن يضيرك».

والحق أن الكتّاب انقسموا حول المعاناة التي يسببها تكرار مراجعة المسودات لكل كتاب، فبينما اعترف همنغواي بأنه يستهلك من الأقلام الرصاص الكثير جداً بسبب تكرار المسودات، وأضاف: «استهلاك سبعة أقلام في اليوم عمل جيد»، قال نجيب محفوظ إنه يراجع كثيراً ما يكتبه، ويحذف منه الكثير، لافتاً إلى أنه يجب أن يتخلّص من مسوداته القديمة أولا بأول، وفور إرسال النص النهائي إلى الناشر، لأنه لو لم يفعل ذلك: «سيمتلئ بيتي بورق لا نفع له»... ما يشي بحجم الأوراق التي تهدر فيها مسوداته.

الكاتبة سوزان سونتاج اعتبرت كتابة راويتها «عاشق البركان» في عامين ونصف العام مدة سريعة بالنسبة إليها، وهي حكت عن مدن برلين ونيويورك وميلانو، كمدن ثلاث كتبت فيها هذه الرواية، خلال هذه المدة، لكنها قالت إن الحبكة قد تأتي كأنها «هبة» فجأة، كشيء شديد الغموض، في حين قال هنري ميلر في حواره، إن بعض المعاناة والتعب قد تكون عونا للكاتب، مشيراً إلى أنه كتب مرات فقرات كاملة من رواياته، تحت وطأة الجوع أو الاحتياج إلى الشراب، وفي بعض الحالات، كان يكتب بطريقة الإملاء، وأضاف: «يحدث هذا الأمر على فترات نادرة، شخص ما يسيطر عليك فإذا بك تنسخ لا أكثر ما يقال».

الواقع... والخيال

يتطرّق الكتاب إلى جانب مهم من جوانب العملية الإبداعية، وهو المسافة بين الواقعي والخيالي في أعمال الروائيين، حيث طرح السؤال على معظمهم، وجاءت الإجابة الأكثر إدهاشاً من الروائي الأميركي المثير للجدل بول أوستر، مؤلف «ثلاثية نيويورك»: «مدينة الزجاج الشبح الغرفة الموصدة»، والتي رفض 17 ناشراً نشرها، إلى أن صدر الجزء الأول منها عام 1985، لتصنع أول خطوات نجوميته في عالم الكتابة خصوصاً في الغرائبية المدهشة، التي تتمتع بها أعمال أوستر.

وجه الغرابة في إجابات أوستر أنه اعترف بكثير من الشخصيات الواقعية، التي كتبها في هذه الثلاثية، إلى درجة أنه اعترف متمنياً أن تكون المهلة القانونية انتهت بأنه اخترع شخصيات خيالية، وأضافها بنفسه إلى سجلات الحكومة الأميركية، قبل أن يكتب ذلك، في القصة التي يحكيها بطل رواية «الزجاج»، عن مكتب «الولايات المتحدة للتعداد»، في هارلم، عام 1970.

من بين الظواهر التي اعترف بها أوستر وكانت مفاجئة لكثير من جمهوره، أنه كان يكتب الشعر لمدة 10 أعوام، بعدما اكتشف أنه لن يكون أحسن لاعب بيسبول في أميركا، ثم توقف فجأة عن الشعر، وشعر أنه نضب، يقول: «كانت لحظة قاتمة في حياتي تصورت فيها أنني انتهيت ككاتب»، لكن من بين أكثر مرات حياته مفارقة، يقول أوستر، بأنه اختير لقراءة قصص حياة مواطنين أميركيين على الراديو، بسبب صوته الأجش والمميز، حيث أراد أن يعرف ما إذا كان غيره من الناس عاشوا ما عاشه من تجارب، ليعرف هل هو مجرد مجنون أم أن الواقع فعلاً غريب وعصي على الفهم، كما بدا له كثيراً، وحين سأله الصحافي: وما الذي أسفر عنه من نتائج؟ أجاب: «اكتشفت أنني لست وحدي... هناك بيت حافل بالمجانين».

back to top