ليبدأ الرد المعتاد
يستهدف انتحاريون إسلاميون إحدى العواصم الأوروبية القليلة التي لم يستهدفوها من قبل منفذين اعتداء إرهابياً بحصد عدداً كبيراً من الضحايا.فيشمل الرد المعتاد ما يلي: أولاً، تتطاير أشلاء الأبرياء عند نقطة الوصول في المطار أو قطار الأنفاق، فتعمّ الصدمة لفترة وجيزة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ينتظر المتعاطفون عرض هاشتاغ هذا العمل المريع ورموزه "المميزة"، ويأملون أن تبقيهم مطلعين على مجريات الأحداث إلى أن يصل عازف البيانو إلى موقع الاعتداء ليشدوا بأغنية Imagine there’s no countries (تخيلوا أنه ليس هناك بلدان)، في هذه الأثناء يصدر على الأرجح تصريحٌ عن شخصية ما يستطيع كثيرون التنديد به، معتبرين إياه "غير ملائم".
وفي المرحلة التالية: العثور على خبر جيد وسط الحطام، أيّ خبر يفي بالغرض، لكن الأفضل يبقى خبراً إيجابياً عن المسلمين، فبعد اعتداءات باريس مثلاً أشارت بعض التقارير في الحال إلى أن حارساً مسلماً شجاعاً تصدى لأحد الانتحاريين في ملعب "ستاد دو فرانس"، فتناقلت وسائل الإعلام هذا الخبر بسرعة، حتى قبل التأكد من صحته، وتبين لاحقاً أنه ليس صحيحاً، لكن الناس يحتاجون إلى خبر مماثل، ليس لأن المسلمين لا يقومون بأعمال خيّرة، بل لأن الناس يريدون عقب أي اعتداء إرهابي إسلامي ألا يكون الانتحاريون مسلمين وألا يكون المسلمون انتحاريين. وهكذا يستطيع المسلم الصالح تمثيل الإسلام، في حين يُقال عن المسلم السيئ إنه لا يمتّ إلى الإسلام بصلة.نصل بعد ذلك إلى المرحلة التالية، التي تطرح خلالها وسائل الإعلام أسئلة لا تعالج أي نقطة أساسية. على سبيل المثال، يكثر في المملكة المتحدة ذكر قانون "بيانات التواصل الحكومي"، كذلك نشهد على الأرجح جولة جديدة من الحوار القديم عن "أوامر الحد من الحرية" مقابل "تدابير مكافحة الإرهاب والتحقيق في قضاياه"، وسيكون أحد سياسيي حزب العمال أول مَن يثير هذه النقطة على الأرجح، آملاً أن يظهر بمظهر الرجل القوي، بالإضافة إلى ذلك يبدأ الجميع في وسائل الإعلام بالتحدث عن "الأصولية" كما لو أنها عدوى قد تلتقطها من الماء، ويدّعي الخبراء أنهم يملكون معلومات وافرة عن "مسالك التطرف"، أما نيكي مورغان فتعلن ضرورة توسيع أجندة Prevent (الوقاية) لتشمل أطفال الحضانة، وبعد سنة تُقفل دار حضانة ما تديرها جمعية الأصدقاء الدينية (الكويكرز). في المقابل يحوّل البعض مسار النقاش ليتطرقوا إلى سياسة بلجيكا الخارجية التدخلية غير المقبولة، في حين يستفيض آخرون ليصلوا إلى القضية الإسرائيلية-الفلسطينية. في الوقت عينه ينكب الجناح الكوربيني من حزب العمال على موضوعه المفضّل: لا الأشلاء في المطار بل مَن تعرضن لنظرات قاسية أثناء ركوبهن حافلة وهن يرتدين الحجاب، وبحلول اليوم التالي على أبعد تقدير، يكون كل القادة المسلمين البارزين قد تحدثوا بإسهاب عن "رد الفعل" الوحشي (الذي يشمل عموماً النظرات القاسية والكتابات المسيئة على مواقع التواصل الاجتماعي)، وبحلول يوم الخميس يكون الجميع قد نسوا الضحايا.هذه هي حال أوروبا اليوم: تُكرَّر المسائل التافهة مراراً، في حين لا يأتي أحد على ذكر المسائل التي تستحق الغوص فيها، ولكن ما هذه المسائل؟ تشمل هذه واقع أننا مضطرون إلى العيش مع عواقب الهجرة ووهم "الاندماج"، الذي كان علينا التخلي عنه منذ سنوات، لكن حكوماتنا واصلت الادعاء أن إضعاف حدود أوروبا الخارجية ومحو حدودها الداخلية، اللذين تزامنا مع إحدى كبرى عمليات استبدال السكان في التاريخ، لن يكون لهما أي تأثير ملموس في مستقبل قارتنا، فزعموا أن بريطانيا ستبقى دوماً بريطانيا، وفرنسا فرنسا، والسويد السويد، وبلجيكا بلجيكا.ولكن ربما تعلمنا بعض الدروس، ولو بصمت، فقبل عقد كان المحللون يشيرون بعد كل اعتداء إلى الأماكن التي كان يُفترض أن تنجح فيها الهجرة الجماعية، والاندماج، والحدود المفتوحة، وعقب اعتداءات لندن تساءل الناس: "ماذا يمكننا أن نتعلم من فرنسا؟"، وبعد اعتداءات فرنسا قالوا: "ماذا نتعلم من النموذج السويدي؟"، لكن السويد ما عادت تُذكر اليوم وما عاد أحد ينظر إلى أي نموذج آخر لأنها كلها أخفقت. إذاً ها نحن اليوم عالقون وسط مشكلة أوصلنا إليها سياسيونا ولا يملكون أي حل لها، فقد تكون كل هذه الثرثرة العقيمة وسيلة الناس لتجاهل الحقيقة قبل أن يُضطروا إلى مواجهة هذا الواقع.* دوغلاس موراي