في مقال الأحد الماضي تحت عنوان "الجنود المجهولون في مسيرة الديمقراطية" قلت عن النائب مشاري العنجري، إنه كان علما لاستقلال القضاء، لصدور قانونه في عهده، كما كان وما زال رجل دولة، عندما كان قبل عمله البرلماني وكيلا مساعدا لديوان الموظفين، ورأى في العنصر البشري في الجهاز الإداري للدولة الركيزة التي يقوم عليها بناء الأمم، فبنى في خياله ثم في الواقع قانون الخدمة المدنية، كما كان علماً في أزمه تنقيح الدستور عندما خاض وبعض أعضاء المجلس، ومنهم حمد الجوعان، معركتهم ضد هذا التنقيح، بعد أن كان المجلس قد وافق بأغلبية أعضائه على الاقتراح من حيث المبدأ والموضوع، وكان لإسهامات العنجري ومن معه الفضل في سحب الاقتراح بالتنقيح، قبل مناقشته مادة مادة، والتصويت عليها.
وتناولتُ في مقالي السابق المادة (37) من اللائحة الداخلية، التي كان لمشاري العنجري الفضل في تعديلها بالقانون رقم 3 لسنة 1982، لإحياء الدور التشريعي لمجلس الأمة، حيث كان تطبيقها وفقا لتفسير غير سليم لها على مدار الفصول التشريعية الأربعة الأولى للمجلس، واستهلال الفصل التشريعي الخامس، الذي تبوأ فيه العنجري مقعده البرلماني، يعوق الأعضاء المنتخبون في مجلس الأمة عن أداء دورهم التشريعي، إذا امتنعت الحكومة عن التصويت.وقد تتابع أصدقائي من قراء مقالاتي من المتخصصين في البحث الدستوري والقانوني يسألونني مزيدا من الإيضاح، حول ما كان عليه تطبيق أحكام هذه المادة وفقا لتفسيرها سالف الذكر قبل تعديلها، فآثرت أن أفرد هذا المقال لهذه المادة، تحت هذا العنوان.امتناع الحكومة عن التصويتفقد كان هذا الامتناع وممارسة الحكومة له صادما لمشاري العنجري، وهو ما سيوضحه المثال التالي:كانت الحكومة تستطيع إسقاط أي اقتراح بقانون يتقدم به بعض أعضاء المجلس، ولو كان قد وافق على هذا الاقتراح 32 عضواً ولم يعارضه أحد، وكان قد حضر الجلسة أثناء التصويت أربعون عضوا، بما يزيد على النصاب القانوني اللازم لانعقاد المجلس انعقادا صحيحاً، وهو 33 عضواً إذا امتنعت الحكومة عن التصويت ولم ترفضه، لأن أصوات الممتنعين تستبعد من نصاب انعقاد المجلس وفقا لهذا التفسير. وكان رأي الدكتور وحيد رأفت في تفسير أحكام المادة (37) في المذكرة التي تسلمتها منه في منزله بالمعادي يوم 13 أكتوبر سنة 1981- وهو التاريخ الذي دونه عليها- ما يلي:إن المفروض في عضو المجالس النيابية المنتخبة من الشعب أو حتى في العضو المعين فيها، أن يبدي رأيه بصراحة ووضوح في كافة مشروعات القوانين والقرارات المطروحة على مجلسه، وذلك إما بالقبول أو الرفض، أي بـ"نعم" أو "لا"، أما حضور الجلسات والامتناع عن التصويت فهو موقف مائع يجدر أن يتجنبه النائب، ولا تشجع عليه أحكام الدساتير أو اللوائح الداخلية للمجالس النيابية، وليس في المادة 97 من الدستور أي إشارة إلى الغياب الحكمي، أي إلى الأعضاء الذين يحضرون الجلسة ثم يمتنعون عن التصويت.تزيد أو تجاوز لأحكام الدستورثم يقول عطفاً على ما تقدم: "هو تزيد أو تجاوز لأحكام الدستور"، بل بدعة ربما أوحى بها ما يجري حاليا في بعض المنظمات الدولية المعاصرة كالجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يجوز الامتناع عن التصويت وإثبات هذا في المضبطة، وذلك لاعتبارات خاصة، فقد تستشعر بعض الوفود إلى هذه الجمعية، لاعتبارات وطنية أو دولية، بعض الحرج في التصويت بـ"نعم" أو "لا" على القرار، فتوثر سلوك سبيل ثالث أقل حرجا وهو الامتناع عن التصويت، وللامتناع عن التصويت من جانب مندوبي الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن وضع خاص معلوم، إذ يعني عدم الموافقة على القرار المطروح.الامتناع عن التصويت في المجالس النيابيةولكن الأوضاع في المجالس النيابية الوطنية مختلفة تماما عن تلك السائدة في المنظمات الدولية العالمية أو الإقليمية، وكذلك نادرا ما تتحدث الدساتير الوطنية أو اللوائح الداخلية للمجالس النيابية عن الامتناع عن التصويت.ويضيف أنه في أكبر وأعرق المجالس النيابية في العالم، وأعني مجلس العموم البريطاني، حينما يطرح قرار من القرارات للتصويت في المجلس يخرج المؤيدون من باب خاص على يمين رئيس المجلس، في حين يخرج المعارضون للقرار من باب آخر على يساره، ويجري فرز أصوات كل فريق على حدة بواسطة مراقبي المجلس، فلا مكان هناك للامتناع عن التصويت، ولا تشير التقاليد أو اللوائح الداخلية لمجلس العموم البريطاني إلى الحاضرين والممتنعين عن التصويت، وفي أغلب المجالس النيابية في العالم، بما في ذلك المجالس النيابية المتعاقبة في فرنسا والجمعية الوطنية الفرنسية الحالية.ليس طعناً على المادةكل هذا يقطع بأن ما عناه د. وحيد رأفت بالتزيد أو التجاوز في أحكام هذه المادة لأحكام التفويض الوارد في المادة 117 من الدستور هو اعتراضه على ظاهرة الامتناع عن التصويت، لعدم ملاءمتها فضلاً عن خلو الدساتير المقارنة واللوائح الداخلية للمجالس التشريعية منها.ولم يقل الدكتور وحيد رأفت في مذكرته سالفة الذكر إن نص هذه المادة مخالف للدستور، بل قال وبالحرف الواحد، إن ما كان يجري من تطبيق لأحكام هذه المادة كان تطبيقا غير سليم.فقد كان بعض الأعضاء في مجلس 81 قد صبوا جام غضبهم وسخطهم على هذه المادة، بزعم عدم دستوريتها مستشهدين في ذلك بمذكرة الدكتور وحيد رأفت التي وزعها النائب الفاضل مشاري العنجري عليهم عند مناقشة المشروع الذي قدمه بتعديل أحكام المادة 37 سالفة الذكر. والصحيح من واقع ما كتبه الدكتور وحيد في مذكرته أنه رأى إزاء ما جرى عليه العرف البرلماني من هذا التفسير الشاذ لأحكامها في نهاية مذكرته، تعديل أحكام هذه المادة، وهو التعديل الذي أعده النائب مشاري العنجري وصدر به القانون رقم 3 لسنة 1982.وكان الخيار الآخر للدكتور وحيد رأفت في مذكرته إزاء هذا العرف البرلماني إلزام النواب بالتصويت على قرارات المجلس بـ"نعم" أو "لا"، وهو ما لا يجوز احتراما لحرية النائب في إبداء رأيه.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قل ودل: المادة 37 من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة المفترى عليها
21-02-2016