سطرت أحكام المحكمة العليا الاتحادية للقضاء الأميركي سجل فخار في أحكامها التي قررت الحقوق المدنية للملونين، واعتبرت أن انتقاص قوانين الولايات لهذه الحقوق منطوٍ على إهدار لأحكام الدستور ومخلّ إخلالا جسيماً بمبدأ المساواة بين المواطنين .

Ad

إلغاء مخطط الغاز

في مقالي الأحد الماضي علقت على حكم محكمة العدل العليا في إسرائيل بإلغاء مخطط للغاز الذي أقرته الحكومة والكنيست، فقلت إن شجاعة قرار المحكمة بأنها قالت "لا" لكل من الحكومة والكنيست (البرلمان)، لأن الكنيست كان قد صوّت بالموافقة على هذا المخطط، لأسباب قانونية وصفها البعض بأنها غير جوهرية، للتضحية بهذا المشروع الضخم الذي يعود على إسرائيل بعوائد ضخمة.

واستعدت من الذاكرة موقف المحكمة العليا الأميركية ووقوفها في الأزمة المالية العالمية سنة 1932 ضد قرارات الرئيس روزفلت في توجيه آليات السوق، الأمر نشأ معه صراع بين المحكمة والرئيس، وكان صراعا غير متكافئ، لم تكن نتيجته لمصلحة المحكمة.

وحين قضت المحكمة العليا الأميركية في عام 1974 بأنه يتعين على رئيس الولايات المتحدة الأميركية نيكسون تسليم التسجيلات الصوتية للمحادثات السرية مع معاونيه بشأن قضية ووترغيت، فإنها بذلك وضعت نهاية وخاتمة لحكم الرئيس نيكسون.

واتصل بي عقب كتابة المقال قاض جليل، تربطنا صداقة طويلة، معلقا على مقالي، وعاتباً عليّ أن أستشهد بحكم لهذه المحكمة ذات السجل المشين في التمييز العنصري ضد الفلسطينيين، في الأرض المحتلة، أو حتى ضد فلسطينيي 1948 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، واستغرب أن أقارن بينها وبين المحكمة الاتحادية العليا الأميركية ذات السجل الناصع البياض في حظر التمييز العنصري.

ودار نقاش بيننا رأيت ألا يظل في كنّ مستور، فيما يتعلق بتفسيري لما كتبت في مقال الأحد الماضي، فقد يكون لدى غيره من القراء الهاجس ذاته.

وبادئ ذي بدء، فإن تعليقي على حكم قضائي لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية يظل محصورا في قضية بعينها، هي التي تناولتها في مقالي المذكور، ذلك أنه من الخطأ في نقد العمل تجاهل خصوصية السبب فيما تناوله العمل.

ويقول المولى عز وجل: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها".

الفارق بينهما كالثرى والثريا

وكنت قد طرحت سؤالا مشروعا، حول ما إذا كان هذا الحكم بداية لدور المحكمة العليا في المعادلة السياسية في إدارة شؤون البلاد، كالدور الذي تمارسه المحكمة الاتحادية العليا الأميركية، إلا أن الأمر لن يكون على هذا النحو في إسرائيل، لأن دور محكمة العدل العليا الإسرائيلية سوف يكون دورا محدودا في المعادلة السياسية؛ لأن المحكمة العليا الأميركية كانت تحمي مبادئ الدستور الأميركي، والتعديل السادس عشر، واللذين يعيشان في وجدان الشعب الأميركي، لعدة قرون، ويكشف التاريخ القضائي لهذه المحكمة أن الولايات المتحدة الأميركية تعيش في ظل نظام دستوري عريق يسنده إيمان عميق بالقيم الديمقراطية وبفكرة الحكومة المقيدة. (دكتور عادل عمر شريف قضاء الدستورية ص 135)، أما إسرائيل فإنه ليس لديها حتى الآن دستور تعتصم به محكمة العدل العليا الإسرائيلية.

قضاء «العليا الأميركية» في التمييز العنصري

وتسجل أحكام المحكمة العليا الاتحادية للقضاء الأميركي سجل فخار في أحكامها التي قررت الحقوق المدنية للملونين، واعتبرت أن انتقاص قوانين الولايات لهذه الحقوق منطوٍ على إهدار لأحكام الدستور الأميركي مخلٍّ إخلالا جسيماً بمبدأ المساواة بين المواطنين الذي قرره الدستور.

وكانت البداية عندما قررت المحكمة العليا الأميركية في عام 1954 أن نظام التفرقة العنصرية يجب أن ينتهي في أسرع وقت ممكن.

وأكدت المحكمة العليا مبدأها في قضية كوبر ضد أكرون سنة 1958 الذي قررت فيه أنه لا يمكن لأي سلطة أن تعلو على الدستور أو تخالفه.

وفي سنة 1955 استطاعت فتاة صغيرة سوداء أن تهز أركان التفرقة العنصرية حين رفضت الجلوس في المقاعد الخلفية المخصصة للسود في سيارات النقل العام، وتم القبض عليها وإيداعها السجن لمخالفتها قانون ولاية ألاباما، وقامت المناضلة الزنجية روزا باركس بتبني قضية هذه الفتاة أمام المحكمة العليا الأميركية، ثم قامت المناضلة الأميركية هي الأخرى بتحدي قانون الولاية والجلوس في مقعد من مقاعد البيض، وتم إنزالها بالقوة والقبض عليها، وقرر السود بزعامة مارتن لوثر كنج مقاطعة سيارات النقل العام والسير على الأقدام، واستمرت هذه المقاطعة من أول ديسمبر 1955 حتى نهاية 1956 حين أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكماً يقضي بأن قانون الولاية الذي يقرر هذا النظام فيه انتهاك لمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور.

وتحدى طلبة جامعة نورث كارولينا السود قانون الولاية حين دخلوا أحد مطاعم البيض في أول فبراير سنة 1960 وتم اقتيادهم إلى السجن.

ويسجل للرئيس أيزنهاور، كيف وقف مدافعا عن حكم المحكمة العليا الأميركية فيما أرسته من مبادئ المساواة بين البيض والسود، حين كانت التفرقة العنصرية تسود ولايات الجنوب، عندما أصدر قراره بإرسال قوة من الجيش الأميركي إلى الولاية، تحملها الطائرات لتنفيذ حكم المحكمة، بإدخال طالب أسود إلى الجامعة.

وقررت المحكمة العليا في سنة 1971 أن الالتحاق بالمدارس يجب أن يتم على أساس محل إقامة الطالب لتقضي بذلك على كل مظاهر التفرقة العنصرية، بعد أن اتخذت التفرقة العنصرية شكلا جديداً هو وجود مدارس للبيض، في المدن التى لا توجد فيها إلا أقلية سوداء ومدارس للسود في المدن التى لا توجد فيها إلا أقلية بيضاء.

كما أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمها بأن توفير فرص متكافئة للوظائف لكل من البيض والسود هو أحد الحقوق المدنية.

وقدم الرئيس كيندي في عام 1963 إلى الكونغرس قانون الحقوق المدنية ليجسد بهذا القانون مبادئ المحكمة العليا الأميركية، إلا أنه تم اغتياله قبل إقرار الكونغرس بمجلسيه لهذا القانون، فكان من أولويات خلفه الرئيس جونسون، وصدر القانون، فطعن رجل أبيض في هذا القانون أمام المحكمة العليا الأميركية بدعوى عدم دستوريته في القضية المعروفة بأتلانتا موتيل ضد حكومة الولايات المتحدة، إلا أن المحكمة العليا أصدرت في سنة 1964 حكمها القاضي بأن الكونغرس أصدره في حدود سلطاته الدستورية.

وللحديث بقية عن التمييز العنصري في قضاء محكمة العدل العليا الإسرائيلية.