يدعو هانتنغتون إلى التضحية بالديمقراطية من أجل سواد عيون العبور من مجتمع تقليدي مستقر إلى مجتمع حديث مستقر، فليس المهم في رأيه تبني النظام للديمقراطية بل صعوبة الإطاحة بالزعيم المستبد، وبالطبع لا يستخدم هانتنغتون المصطلح الدارج في موروثنا العربي الإسلامي «الملك العضوض» لكن ذلك ما أومأ إليه في حديثه عن المرحلة الانتقالية.

Ad

حريّ بأن يسترعي انتباهنا الجدل الدائر بين النخبة في الغرب حول مستقبل العلاقة بين الغرب والشرق الأوسط، وهو جدل أفضى ببعض النابهين إلى ما يشبه الإجماع، بأن المنطقة والخطوط المتعرجة لأحداثها تبدو مستغلقة على أفهامهم، وأن وطأة هذه الأحداث تستحثهم على نبش مقاربات قديمة من بينها تلك التي طرحها عام 1966 المؤرخ صموئيل هانتنغتون، والتي ساق فيها جملة حجج على أن المؤسسات السياسية الضعيفة في كثير من البلدان حديثة الاستقلال في طور حركات التحرر الوطني لن يكون بمقدورها التكيف مع سرعة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية في العالم المتطور.

فقد أشار هانتنغتون إلى أن توجهات كالتنمية الحضرية والصناعية تحمل معها مخاطر التناحر العرقي والطبقي وتفشي الجريمة والثورات والفساد. كما شدد على أن الوهم الاستراتيجي الأميركي من أن النمو الاقتصادي سيتمخض عنه تلقائيا تبني الصيغ الديمقراطية في الحكم قد ألحق ضررا بالغا بمبدأ تعزيز الاستقرار السياسي.

كانت حجة هانتنغتون حينذاك تنهض على مفهومي الأولوية والتعاقب، ودلل على صوابها بالقول إن بريطانيا أنجزت الثورة الصناعية من خلال توفير فرص العمل بدءا، ومن ثم الشروع في تعليم الناس، في حين أن الدول المستقلة حديثا من نير الاستعمار هرولت في الاتجاه المعاكس من خلال البدء بتعليم الناس، لتحصد بعدها الفشل المدوي في توفير فرص عمل لهم، كما أبصر هانتنغتون جرثومة الشقاق الأهلي مستقرة في المؤسسات التي تطلع المواطنون المتعلمون حديثا للمشاركة فيها ولم تكن مؤهلة للتكيف معهم.

صحيح أن بعض الوجاهة تتلون بها حجة هانتنغتون، ولكن المخرج من هذه المعضلة الذي اقترحه يتبدى استشراقيا، وأبعد من ذلك، يستعير الوجه الداكن للاستشراق الناظر إلى الشرق على أنه عديم الإرادة والطاقة، فهو يشترط كي يكون الطريق نحو الحداثة سالكا ضرورة وجود زعيم مستبد في مرحلة انتقالية، يحول حكمه دون اندلاع مشكلات سياسية خلال الطور المبكر من عملية التحديث. والمذهل أن هانتنغتون يدعو للتضحية بالديمقراطية من أجل سواد عيون العبور من مجتمع تقليدي مستقر إلى مجتمع حديث مستقر، فليس المهم في رأيه تبني النظام للديمقراطية بل صعوبة الإطاحة بالزعيم المستبد، وبالطبع لا يستخدم هانتنغتون المصطلح الدارج في موروثنا العربي الإسلامي "الملك العضوض"، ولكن ذلك ما أومأ إليه، أقلها في حديثه عن المرحلة الانتقالية.

والغريب أن الواقع المؤلم على امتداد الشرق الأوسط أثبت بجدارة خطل هذه النظرية، وبرهن على أنها لم تخفق فقط في التهيئة لديمقراطيات مستقرة، بل برهن بشكل باهر على أن الأنظمة التسلطية التي انعقد عليها الرجاء لم تنجب سوى تسلطيات أشد، ولكن الأشد غرابة أن الرهط المنكب على بعث الحياة في مقاربة هانتنغتون، يرى تجسيدها راهنا من خلال سياسات من نوع التحالف مع إيران وسورية في مكافحة الإرهاب، والدعوة لأن تتولى الحكم في العراق وليبيا والصومال زعامات استبدادية. وكائنا ما كان الأمر فإن الغرب بوجهه التنويري والمعرفي ينحدر في ربوعنا إلى قيعان الإفلاس الأخلاقي والقيمي، وسيدون التاريخ أن الخطوة الأولى في ذلك قام بها أوباما حين ترك المطالبين بالديمقراطية في ثورات الربيع العربي تحت رحمة المستبدين.