أصرف الحديثَ في هذه الحلقة الثانية من أدب الكاريكاتير على شاعر واحد، لم يُنصفه تاريخ الأدب العربي كعادته، هو الشاعر ابن الحجاج (توفي في 391هـ). ابن بغداد في عزّها الحضاري المُزهر. تعرفت عليه في كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي في الستينيات، وتمثلتُ له بمقطع من شعره في قصيدتي الطويلة «قارات الأوبئة. أحببته، هو وابن سكرة وأبوالشمقمق، لأنهم نموذج احتجاج في وجه الشعر الرسمي الذي يعتاش على رضا الخلفاء والأمراء. لقد انتسب ابن الحجاج عن عمد إلى «السخف»، كما اصطلح النقاد آنذاك على الشعر الساخر حتى من النفس. وقلت عن عمد، لأن ابن الحجاج كتلة أضداد بين سيرته وما يكتبه ويصفه. بين فقره داخل القصيدة وغناه خارجها. لم يعتش على المدح والكدية، بل على التعاطف من قبل الراغبين في الضحك معه. كان شعره يُربك الذائقةَ المتنفجة بالفضائل، وكأنه يختبر معيارها بشأن الكذب والحقيقة. شعره يدعو إلى الضحك الساخر من ظاهر الحياة، ولكنه يفتح البصيرة للاحتجاج الأخلاقي. حين مات، أوصى بأن يُدفن، هو الشيعي، عند أقدام موسى الكاظم، ويُكتب على ضريحه: «وكلبُهم باسط ذراعيه بالوصيد». نباهة شاعر مثل الشريف الرضي، الزاهد المتبتل، كانت تجده مُقرّباً حتى لقّبه بصفة «خِفّة روح الزمان»:

Ad

وما كنتُ أحسبُ أن الزمان    يفلُّ مضاربَ ذاك اللسانِ

ليبكِ الزمـــــانُ طويــلاً عليك    فقد كنتَ خفّةَ روح الزمانِ

كان يحاكي شعراء مرحلته المتجهمين داخل الأغراض التقليدية أحياناً قليلة، وعلى رأسها المدح، فهو مصدر دخله الوحيد. ولكنه وسط ذلك المدح لا يملك إلا أن يضحك. يقول في مدح:

حصلتُ منه في نصف يومٍ    ما كنتُ أرجوه في شهورِ

فليــــــت أعمــــــــارَ مــــن نُعـــــادي    كعمرِ ميعادكَ القصـيرِ

ويقول حين يدعوه ذلك الوزيرُ إلى حربٍ:

وإذا الوزيــــــر غـــــــــــداً دعـــــــــاك    مع الغزاةِ إلى النفيرِ

فاضحـــــك إليــــــــــــه وقـــــل لـــــــه:    يا مُشبهَ القمرِ المُنيرِ

قــــلْ لي متى كُتـــــــبَ القتــــــالُ    على الفرزدق أو جريرِ

أو بشأن أمور الحرب:

تــلــــكَ أمـــــــــورٌ تُثيــــرهــــــــا همـــــمٌ    عاليةٌ للملوك والوزرا

ولو صلَحنا لها إذا حضرتْ    يوماً لكنا وأنتمُ نُظرا

والهجاء لديه، بالرغم من دقة التفاصيل في التشويه مثل ابن الرومي، فإنه دعابةٌ لا تخلف ضغينة. وله في هذا الباب رائية طويلة، عجيبة في تفاصيل التشويه هذه، تجدها كاملة في كتاب الثعالبي، ولا تصلح للنشر في عصر المحرّمات:

يا نتــــــــنَ رائحــــــــةِ الطبـــيـــــخِ    إذا تغير في القـدورِ

يــــا عــــــــشّ بيـــــــــــــضِ القمــــــــــلِ    فرّخَ في السوالف والشعورِ

يا حَـــــــــرَّ قولنـــــــج البطــــــــــــون    وبردَ أعصـابِ الظهورِ

يـــا وحشـــــــــــــــةَ المـــــــوتـــــى إذا    صاروا إلى ظُلم القبـورِ

 

ثم كثيراً ما يلتفت إلى حاله التي يريدها مُزريةً في شعره، وهي على غير هذا في حياته الواقعية:

أتـعـــشى بغيـــــرِ خبـــزٍ، وهـــــــــذا    خبري منذُ مدةٍ في غَدائي

فأنا اليوم من ملائكةِ الدولةِ    وحدي أحيا بغيرِ غـِذاءِ

آيةٌ لم تكنْ لموسى بنِ عمرانَ،    ولا غيره من الأنبياءِ

أو:

هــــــــذا وأيــــــــــــــامُ أكــــلي    عند الملوكِ الكبارِ

مـــــــا كنـــــــتُ أفطــــــرُ إلا    على كبودِ القماري

مشــــويـــــــــةً وقــــــلايـــــــا،    فاليومُ قطّةُ داري

إذا أرادت تَعشّـــــــــــــــــــى    تنغّصت لي بفارِ

لم تُحقق له أعمالٌ شعرية كاملة، إلا أن دار الجمل أصدرت كتاب «درة التاج من شعر ابن الحجاج» 2009، الذي عمله هبة الله الاسطرلابي، ويحتوي على 600 صفحة من شعره المُنتخب. حقق مخطوطاته الدكتور علي جواد الطاهر، وراجعه الدكتور محمد الأعرجي، ولكن الكتاب مليءٌ بالأخطاء الطباعية.