يُقال إن أجمل الكتب وأعظمها أثراً تلك التي تُحاكي ما يدور في رؤوسنا من أفكار، وما يخالط ضمائرنا من هواجس وقضايا. وكل ما هنالك أن المؤلف استطاع أن يضعنا أمام أنفسنا، ويقول ما لا نُحسن أن نقوله، أو يصور ما لا تستطيع أدواتنا القاصرة في التعبير والتدبيج أن تفعله، ولهذا نجد أنفسنا أثناء القراءة مأخوذين بتلك الجاذبية الخفية الذي تجذبنا نحو الألفة المخلوطة بالدهشة، حين نكتشف قرارة أنفسنا في مرايا الصفحات، فنتبسّم تلك الابتسامات الممتلئة بالرضى.
ديفيد بروكس يقدم لنا تلك المتعة الممزوجة بالرضى في كتابه The Road to Character، وترجمته (الطريق إلى جوهر الشخصية الإنسانية)، هذا إذا صحّ لي أن أتصرف بالترجمة بما يتلاءم مع روح الكتاب. وكنتُ قد شاهدت إحدى حلقات أوبرا وينفري في برنامجها الشهير Super Soul Sunday، وهي تناقش الكاتب والكتاب بأسلوبها السلس والمتفرّد، فطلبت من ابني العائد في إجازة من الولايات المتحدة أن يقتني لي الكتاب، وهذا ما كان.يطرح الكتاب أزمة الإنسان المعاصر وارتباكه أمام تبدل القيم، وبالأخص نمو ثقافة الأنا المتفردة (the big me)- كما عبّر- وتمظهرها في اللهاث وراء ضجيج النجاح والشهرة والبريق الخارجي. في ذات الوقت التي تنكمش فيه الفضائل الذاتية الكامنة في جوهرها الإنساني الأصيل وتتراجع، كفضائل الدماثة والإيثار والصدق والولاء لما نؤمن به. ثم ما ستؤدي إليه هذه الخلخلة والاستبدال في القيم من علاقات مشوهة ومريضة. ثم يستعرض الكتاب في فصوله التالية نماذج للشخصيات المؤثرة، ليس بضجيج نجاحاتها المظهرية الصاخبة، إنما بكدحها الصامت الجميل، وشعورها الغامر بضعفها الإنساني ومحدوديتها. وكيف تمكنت هذه الشخصيات المؤثرة خلال رحلة الكفاح من الاشتغال على ذواتها الداخلية بصمت ودأب دون تبجّح أو ادّعاء. منهم مَنْ تناسى ذاته وجعل من نفسه وسيلة وأداة لأهداف سامية. ومنهم اتخذ من التواضع وبساطة العيش والسلوك سلماً إلى الاندماج مع المقهورين والمظلومين وناقصي الحقوق، في محاولة منه لرفع الضيم أو تحسين الحال. ومنهم من عاش من أجل فكرة نبيلة أو رغبة في سد نقص أو ثغرة، ثم سعى نحوها بدافع قلبي محض دون جلبة. في الكتاب الكثير من الوقفات الثمينة والملامسة لهموم العصر في ظل تبدل القيم الآني، والذي نشهده حولنا ونراه رأي العيان. سواء في تضخّم (الأنا المظهرية) لدى الجيل ولهاثهم وراء النجاح السهل والشهرة السريعة، أو في التكالب على الكسب السريع وتسويق مهارات هشة، أو في عرض للوجوه والأجساد وتفاصيل حياة غير مهمة عبر نوافذ الانستغرام والسناب شات وما شابههما من وسائل التواصل الإلكتروني، فضلاً عما تضخّه ورش العمل ودورات التنمية الذاتية من وعي مبالغ فيه بالذات الفردية، وكونها -حسب الطرح إياه- أولوية عظمى يتضاءل أمامها العالم بأسره والناس أجمعين، فلا غرو والحال هكذا أن يكون نجوم الانستغرام ومطربو الحفلات وفتيات الإعلانات، ومدربو التنمية الذاتية، ولاعبو كرة القدم، ونجوم السينما هم الكواكب الصاعدة في سماء الحياة، لأنهم الأكثر وعياً بنجاحاتهم الظاهرية الصاخبة. ولا عزاء لأولئك الطيبين الدمثين الذين يكدحون من وراء الكواليس لسدّ ثغرات العالم وعوراته، يفعلون ذلك دون جلبة ودون أن يعلم بهم أحد. أعتقد أن كتاب The Road to Character يتماسّ مع حياتنا المعاصرة بصدق وشفافية، بل يطرح الكثير من الأسئلة حول واقع بهذه النوعية، ثم يقدم لنا نماذج تمثيلية لإعادة التفكير والتدبير. سأحاول في متتاليات مقالية لاحقة أن أترجم أجزاء من هذا الكتاب الملهِم، ليس لأنه يجد صدى في نفسي فقط، إنما لأنه بلاشك يحاكي ما يخالط نفوسنا من هموم وقضايا، ويُحسن التعبير عنها.
توابل
The Road To Character
23-02-2016