هَديلٌ كُوَيتيّ
كلنا يعلم أشهر أبطال المسلمين من مثل صلاح الدين الأيوبي مطهر القدس، والمغربية فاطمة الفهري التي تصدقت بميراث والدها الثري لتبني أول جامعة بتاريخ البشرية، وجهزتها بمراكز بحثية وأنظمة أكاديمية، كل هذا لكي تتقن بر والدها! وعمر المختار كاسر الجيوش الإيطالية العتيدة من ليبيا الأبية، وعبدالرحمن السميط الكويتي فاتح إفريقيا، وزبيدة بنت جعفر التي شقت الصحراء القاحلة بقنوات وبرك مائية صناعية من العراق إلى مكة لئلا يعطش حاج ولا معتمر من الرعية، وابن خلدون مؤسس كل أعمدة علم الاجتماع، وابن البيطار طبيب الإنسان والحيوان والنبات، ومهند جبريل أبودية السعودي المخترع لأحدث غواصة بالعالم، والتي سبقت الشرق الياباني والغرب الأميركي في النفوذ إلى أقصى أعماق البحار. الكل ينبهر بأبطالنا الكثر، رحمهم الله أحياءً وأمواتاً، لكننا غافلون عن بطلة مجهولة، ليس بيدها قلم لِتُعلم ولا حتى كتاب لتتعلم، ولا سلاح لتدافع عن نفسها ولا مال لتعمر أرضها، إنها بطلتنا المهجورة، لا يسأل عنها الصحافيون، ولا تدري عنها لجان تحكيم جوائز نوبل، ولا تشهد لها أكاديميات العالم بفضلها التربوي، ولم تكن حتى مادة بحث للعلماء، هذه البطلة ترفض الشهرة، وتتكبد النكسة، ولم ولن تتردد في ذلك مرة في عمرها، أعْجزت العقل عن فهم بطولتها، وحيرت الناس بصبرها.
إنها الأم السورية العفيفة الطاهرة التي أهمل الساسة قدرها، وسيغفل المؤرخون بأسها، صبرها آية، وصمودها رواية، إن العقل ليقف، والقلب ليرتجف أمام بطولتها، تصبر على الأذى من كل قاصٍ ودانٍ، محتضنة الكبير والصغير، الشيخ والرضيع، وليس لها من يردّ حقها، بل لها السماء تحدّق إلى منتهاها، لتقول فيها "لله المشتكى وبقضائه نرضى"، فلا همّ للأخبار سوى قراءة قائمة ضحايا صاحبها وبنيها وفصيلتها التي تؤويها، ومن تعرف في الأرض جميعا، ليرجرج قلبها كل حرف من أسمائهم، ولا يقطع ذلك صبرها ولا إيمانها بربها. وبعد المرارة تحشد أنفاسها وتلملم فتات فؤادها، لتحتضن ما تبقى من أبنائها، تربيهم في وجعها، وتطعمهم على جوعها، تهدهدهم وهي المفجوعة، تطبطب على صدورهم وهي المرعوبة، تجمع اللقمة تلو اللقمة لجيل بلدها الجديد وهي الجائعة، تحشد كل ما يسترهم عن البرد، وتبحث عن دوائهم وتسعى إلى أمانهم وتحلم بابتسامتهم.ألا والله أنت بطلة الواقع، ومورد كل ماجدة وماجد، يا أصل الشرف، وحصن العرض، يا درة بحر الحنان، ويا شمس العزة، فاق حقكِ وصف قلم الأدباء، وألسن الشعراء، يا قدوة أمهات أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، اصبري هذه الأيام، فلقد قال الرحمن الرحيم: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى* وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى* وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى* وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا". كما أن بطولاتك اليومية مخفية، وبالمستقبل من كتب التاريخ منسية، "يامو" نقبّل يديك بعد قدميك، وما وفَّى المقال بمثقال ذرة من مجدك، فنحن، أهل الكويت، ذقنا مرارة الحرب في بلدنا، وقُتل من قتل من شهدائنا، وتشتت أفراد أسرنا، في السعودية وأميركا ومصر وتركيا وفرنسا والشام... إلخ! ومن بقي في داره جاع وتعذب، فلقد أسروا رجالنا، وراعوا نساءنا، فما كان للأزمة إلا أن اشتدت فانفرجت، انهزم العدو، وردت لنا البلاد، وعاد الناس من مطارات العالم، فطارت العائلات الكويتية من كل المشارق والمغارب لتحط كل واحدة منها على غصنها، وكأنها أسراب حمام، ليصير الكويتي بعدها "زاجلاً" رسالته الإنسانية، فهو يطعم الجياع، ويلبس العراة، ويسكن آلام غيره، ودائماً يسعى إلى الخير بالقول والفعل! وما هذا المقال إلا هديلٌ كويتي لحمامة عش الأسرة السورية.أختم بشقشقة أسراب الشام: "يا الله مالنا غيرك يا الله".