ما قل ودل: أناشد مجلس النواب المصري ألا يقع في هذا المأزق الدستوري الخطير

نشر في 17-01-2016
آخر تحديث 17-01-2016 | 00:01
 المستشار شفيق إمام كنت قلقاً من الذين يجرون وراء سراب الأزمات، عندما لوحوا بحل مجلس النواب إذا لم يقر القوانين التي صدرت بعد ثورة 30 يونيو، وحتى اجتماع المجلس، خلال الخمسة عشر يوما التالية لانعقاده، إعمالا لأحكام المادة (156) من الدستور التي لا تنطبق أصلا على هذه القوانين.

وأعترف أنني بقدر اغتباطي بفوز الأستاذ الدكتور علي عبدالعال الذي كان يعمل في الكويت مستشاراً بالديوان الأميري، ولديه حصيلة من العلم العميق بالدستور بقدر ما ازداد قلقي ببدء لجان مجلس النواب بدراسة قوانين ثورة 30 يونيو، وعددها 700 قانون لإعمال سلطته في إقرارها خلال الميعاد الذي حددته هذه المادة لذلك، وهو خمسة عشر يوما من تاريخ أول اجتماع للمجلس، وإلا اعتبرت بانقضاء هذا الميعاد كأن لم تكن من تاريخ صدورها.

حكم تعجيزي

ومن المؤكد أن المادة 156 من الدستور قد فرضت قيداً تعجيزيا على أي برلمان في الظروف الطارئة التي تفرض على السلطة التنفيذية الحلول محل البرلمان في غيبته، وممارسة سلطته في إصدار تشريعات تقتضيها الضرورة، عندما ألزمت المجلس بمناقشة قوانين الثورة والموافقة عليها خلال هذا الميعاد.

ذلك أن هذه المهلة القصيرة المحددة في النص الدستوري لعرض ومناقشة القرارات بقوانين والموافقة عليها ستوقع أي برلمان في حرج بالغ، مع ما يصاحب افتتاح البرلمان أو انعقاده من إجراءات وانتخابات الرئيس والوكلاء واللجان واجتماع اللجان لانتخاب رئيسها ومقررها، والوقت الذي يمكن أن تستغرقه هذه اللجان في دراسة هذه القوانين وتقديم تقرير بشأنها يناقشه البرلمان مناقشة مستفيضة، ثم يصوت عليه.

تداعيات المشهد السياسي

ولعل حماس البعض، وربما النظام، لعرض هذه القوانين على مجلس النواب في أول اجتماع له سبيل لتزداد شعبية النظام على أساس ما وقر في أذهان الجميع من أن البرلمان القادم هو برلمان داعم للدولة والنظام، وأنه لن يقصر في دعم قوانين الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة 30 يونيو، وإقرار هذا الكم الهائل من القوانين خلال الخمسة عشر يوماً التي حددتها المادة 156 من الدستور، لإقرار ما يصدر في غيبة البرلمان من قوانين، إلا أن ذلك سيؤثر سلبا في المظهر اللائق لبرلمان الثورة، إذا أقر 700 قانون استغرق إعدادها وإقرارها أياما وشهورا، ولم تكن كلها موضع ترحيب من كل القوى السياسية، بل كان بعضها محل استهجان البعض وسيعيد إلى الأذهان برلمان كمال الشاذلي (الحرس القديم لنظام مبارك، وبرلمان أحمد عز الحرس الجديد لنظام جمال)، فقد كان كلاهما قادرا على أن يغير مسار المناقشات والتصويت في المجلس، إذا قطّب أحدهما جبينه أو بإشارة من إصبعه، بل استطاع الأخير بعد التصويت على إحدى مواد مشروع قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار أن يجبر المجلس على إعادة التصويت، دون سند من نصوص لائحة المجلس، لخدمة مصالح الرأسمالية المتوحشة في هذا الوقت.

إقامة حياة ديمقراطية سليمة

وقد يضطر مجلس النواب أمام عصا التهديد بالحل أن يوافق على كل هذه القوانين السبعمئة دون أن تقرأ، فالوقت غير كاف حتى لقراءتها، فما البال بفهمها فضلا عن مناقشتها وتحمل مسؤولية التصويت عليها؟

وسيصادر هذا التأييد المطلق من البرلمان لهذه القوانين التي خرجت من رحم الثورة واستمدت شرعيتها منها، هدفا من أهدافها، وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

ذلك أن الديمقراطية تقوم على مبدأ أساسي هو وجود معارضة واحترام رأي الأقلية وإفساح الصدر لها لتعبر عن رأيها وأفكارها وتصوراتها، فكما أن للأغلبية قرارها فللأقلية حقوقها.

والاعتراف بحقوق الأقلية هو جوهر النظام الديمقراطي وجوهر تداول السلطة فيه، بل هو اعتراف بمشروعية تعدد الآراء، وأن أحداً لا يملك الحقيقة كاملة، وأن أحداً لا يملك الزعم بانفراده بقول الصواب، كما لا يملك مصادرة حق الآخرين في إبداء الرأي الآخر.

 وقد يكون فيما ستطرحه الأقلية من آراء وأفكار إذا أتيحت لها الفرصة لمثل هذا البحث ومثل هذه الدراسة، ما قد يغير وجه الرأي لدى الأغلبية التي تستعجل نظر الموضوع وتستعجل التصويت عليه، ذلك أن اختلاف الآراء هو ثراء للفكر، وصراعها هو الذي يومض شعاع الحقيقة، والحوار واختلاف الآراء هما وسيلة المجتمع إلى بقائه وارتقائه.

وإني على يقين بأن الرئيس السيسي لا يريد هذا التأييد المطلق، وأنه يريد برلماناً يمارس صلاحياته كاملة في القيام بدوره التشريعي والرقابي شريكاً كاملاً له وللحكومة في تحمل مسؤوليات هذه المرحلة، وتحقيق الآمال التي يتطلع إليها كل مواطن من الثورة لمواجهة التحديات، وخوض معركته الفاصلة ضد الإرهاب، وضد الفساد، بحكمة ووعي وقلب مفتوح.

الملهاة الدستورية

وسيقع برلمان الثورة في ملهاة دستورية إذا وافق على 700 قانون، ولو رفض بعضها ذراً للرماد في العيون، مثلما تنامى إلى علمي، أن اللجنة النوعية المختصة توصي برفض قانون الخدمة المدنية، وذلك حتى لا يراق ماء وجه المجلس في إعمال أحكام المادة 156 من الدستور في غير محلها وموردها، وقد افتقدت شروط انطباقها على قوانين الثورة التي تستمد شرعيتها من الثورة، ولم تكن إعمالا لأحكام المادة المذكورة.

مثل الملهاة الدستورية التي وقعت عندما وافق مجلس الشعب على تعديل 34 مادة من دستور 1971 في جلسة واحدة شهدت ملهاة دستورية جردت الدستور من أهم مقوماته، وهو تميزه عن غيره من القوانين بالسيادة والسمو، عندما فوض التعديل الدستوري السلطة التشريعية، في إهدار أهم أحكامه الوثيقة الصلة بالحريات العامة والحرية الشخصية وحرمة المسكن والحق في الخصوصية من خلال ما تسنه من تشريعات لمكافحة الإرهاب، وتعطيل الرقابة على دستورية هذه التشريعات، بل أطلقت المادة (179) في هذا التعديل يد أجهزة الأمن في القبض على الأفراد وتفتيشهم وحبسهم وتقييد حرياتهم، دون إذن قضائي، وهي التعديلات التي انتقدتها على صفحات جريدة "الجريدة" الكويتية وجريدة "الأخبار" المصرية.

تفسير أحكام المادة 156

 وما كان أغنانا عن كل هذا لو قرأنا نصوص الدستور قراءة متأنية، وأعملنا قواعد تفسير النصوص تفسيرا ينأى عن الجري وراء سراب الأزمات؟ وأعلم أن رئيس المجلس وكثير من الأعضاء يدركون تماما أن من الأحكام الواردة في الدستور ما لا يبدأ العمل به مع تاريخ العمل بالدستور، بل بنشوء وقائع وأعمال قانونية نص عليها الدستور، لبدء العمل بهذه الأحكام، وعلى رأسها الفصل الأول من الباب الخامس الخاص بنظام الحكم، وهو الفصل الذي أفرده الدستور للسلطة التشريعية (مجلس النواب) الذي استهل أحكامه بالمادة (101) التي نصت على أن "يتولى مجلس النواب سلطة التشريع ...". فسلطة التشريع لا يتولاها مجلس النواب وهو لا يزال جنينا في رحم الدستور، بل يتولاها بعد انعقاده انعقادا صحيحا، وفقا لقانون من القوانين المنفذة للدستور، والذي تلتزم الدولة بإصداره إعمالا للمادة (224) من الدستور، ليبين شروط الترشيح ونظام الانتخاب، وتقسيم الدوائر الانتخابية.

ولا تنطبق أحكام المادة (156) من الدستور المكملة للفصل الأول من الباب الخامس المشار إليه، وفقا للاستهلال الذي استهلت به أحكامها، "إذا حدث في غير دور انعقاد مجلس النواب..."، إلا بانعقاد مجلس النواب وممارسة مسؤولياته التشريعية، فتطبق مع بدء انعقاده لتسد الفراغ التشريعي في غيبته.

أناشد مجلس النواب

لذلك فإني أناشد المجلس أن يصدر قرارا في مستهل حياته البرلمانية، فيه من الحنكة والشعور بالمسؤولية والشجاعة ما سيسجله له التاريخ، بأن هذه القوانين لا تطبق عليها أحكام المادة (156) من الدستور، وأن يحيلها جميعا إلى لجان المجلس، وهي مطبخ البرلمان، لتقدم توصياتها بشأنها، بعد دراسة متعمقة لها، ومناقشتها في اللجان وإعداد تقارير في شأن كل قانون من هذه القوانين، يكون محلا كذلك لمناقشة مستفيضة من المجلس.

ويستطيع البرلمان بعد ذلك وفي فسحة من الوقت أمامه أن يعدل هذه القوانين أو يلغى ما يراه منها غير صالح للتطبيق، أو أن فيه من العوار ما يقتضي إلغاءه، وفقا لمسؤولياته وصلاحياته التشريعية، بعيدا عن المادة 156 من الدستور.

back to top