مَهر الصّياح
يغرف أمير تاج السرّ في رواياته من معين بيئته السودانية تاريخاً وتراثاً وأساطير وحياة لا تنضب. وهو في عكوفه المتأني على عمق تلك البيئة يأخذك إلى أجواء مفعمة بالسحر والغرائب والتساؤلات، وربما أيضاً يعبث بمشاعرك وينتحي بك نحو سخرية مبطنة بالوجع الإنساني أو وجع مبطن بسخرية لاذعة حدّ المرارة. أذكر أنني ضحكتُ كثيراً وأنا أقرأ رواية "اشتهاء"، وقد كتبتُ عنها سابقاً، وذكرتُ أنها رواية تجعلك في حالة ابتسام دائم، بل قد تأخذك إلى قهقهات مفعمة بالخبث، وسرعان ما تكتشف أن أسلوبها الساخر الممعن في الظرف، المتهكّم الممعن في الطرافة، المضحك حدّ المتعة، هو عمودها الحقيقي وفيه يكمن سرّ جاذبيتها الآسرة. لكأن النص لوحة كاريكاتيرية ممتدّة لا تملّ التأمّل في تفاصيلها المتقنة، ولا خطوطها التي تأخذك إلى المزيد من الابتسام.
أما في "مهر الصّياح"، فالضحك سوف يتقلّص وينزوي على نفسه، وقد يتراءى في تلميحات وطُرف أشبه بالشفقة منها بالسخرية، وربما يأخذك إلى ما هو "ضحكٌ كالبكا"، وذلك حين تتأمل في الضيم الإنساني والدركات السفلى الذي يأخذك إليها السرد. يقول تاج السرّ في تقديمه للرواية إنها مستوحاة من كتاب ألفه رحالة عربي قام برحلة إلى بلاد السودان في القرن السابع عشر. وأن النص مستوحى من التاريخ القديم لسلطنات كانت سائدة في السودان ردحاً من الزمن. ثم يستدرك قائلاً:" إن تصادف وتشابهت بعض أحداثه وشخصياته وأسمائه مع أحداث أو شخصيات أو أسماء حاضرة الآن... فهذا محض مصادفة ولا أساس له من الصحة". وهي عبارة اعتاد الكتّاب الروائيون إيرادها ربما لإثبات العكس، والتذكير بأن ما يروونه من مشاهد التاريخ ماهو إلا إسقاط على الحاضر الراهن. يتلامح أمامنا "آدم نظر" منذ افتتاحية الرواية مواطناً في سلطنة "أنسابة"، متسربلاً بشخصية الفتى اليافع الطموح الممتلئ رجولة وعنفواناً رغم صغر سنه. ولعل ذلك الطموح المتحفّز هو الذي قاده إلى مصير غامض اختلطت به الرفعة بالذل والمكانة الجليلة بتنازلات مهلكة ذات ثمن باهظ. لم يكن يدرك "آدم نظر" وهو بصدد الصياح بأمنية غالية في مجلس السلطان، وهي أن يكون (أباً شيخاً)، أي الرجل الثاني في السلطنة ذات يوم. ولم يكن يدري حينئذ أن التدرجات التي يمرّ بها "الأب الشيخ" ستكون أمرّ من الحنظل وأشقى من الشقاء. تبدأ بالتأديب عبر الالتحاق بكتيبة "الرعاع"، ثم بتحويله إلى دابة تُركب على المستوى الواقعي، تبدأ بحمار ثم فرس ثم ناقة، حيث يربط بالرسن ويوطأ ظهره حتى يتقرّح. ثم في مرحلة لاحقة من المذلة يخضع للإخصاء صاغراً، ليصبح من زمرة الخصيان الذين يخدمون حريم السلطان ويُضمّون إلى الحاشية السلطانية. وهكذا تحوّل "آدم" إلى "دمدوم" والرجولة المتحفّزة إلى خنوثة ولين وهرمونات طاغية لا يستطيع لها دفعاً! حينئذ يكتشف دمدوم، بعد رحلة مضنية من الذل والهوان وفقدان الأهل والعزوة، أن "الأب الشيخ" ومستشار السلطان ويده اليمنى لابد أن يكون خصيّاً، ليطمئن السلطان إلى بقائه الأبدي دون مخاوف من خيانة أو إطاحة. وهكذا يتحقق حلم "آدم نظر" بأن يصبح "أباً شيخاً"، وإنْ عبر أوجاع إنسانية وأهوال نفسية باهظة. إن سلطنة "أنسابة" التي هي محور الرواية وفضاؤها المكاني والزماني، لا تختلف عن أي جمهورية من جمهوريات الفاقة والخوف والقهر الإنساني والديمقراطية المقنّعة في زماننا. والرعية المعفّرة بالضعة والاستسلام والركون إلى القدر والنصيب هي هي عبر أزمنة هذه البقعة الجغرافية. أما سطوة الحاكم وتفرده وعبثه بمقدرات شعبه وتحويره لكراماتهم وإنسانيتهم فلا تبدو خارجة عن سياقات الزمن الراهن. أما ما يمتّ بصلة للقرون الخوالي كنظام الرّقّ وجرائم الإخصاء وشتى صنوف الإذلال الإنساني فلها ما يضارعها على المستوى المجازي والكنائي مما هو ضمن المتشابهات من أحوال البشر ومصائرهم في الحياة الراهنة. أعتقد بأن أمير تاج السرّ نجح في بلورة مشروعه الروائي عبر سلسلة من إصداراته المميزة التي لم تؤسس له قاعدة من القراء المخلصين فقط، وإنما جعلت من رواياته مرجعية تاريخية واجتماعية أصيلة يُعتدّ بها.