لينا خوري: «لماذا؟»... لحظة وعي في الغيبوبة العربية
• مسرحية عصام محفوظ مجدداً على خشبة مسرح «المدينة»
لماذا القتل؟ وفي سبيل ماذا؟ سؤالان طرحهما الكاتب عصام محفوظ عام 1971 في مسرحيته {لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71}. وهذان السؤالان بالذات تعيد المخرجة لينا خوري طرحهما اليوم مع تقديم المسرحية نفسها على خشبة {مسرح المدينة} في بيروت، بعدما ازدادت الظروف غموضاً وتشعباً، وازدادت الأسئلة لمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة محفوظ.
الناس في غيبوبة تماماً كما كانوا في سبعينيات القرن الماضي بعد النكسة (1967)، النفايات تجتاح لبنان، حالة القرف تعمّ المجتمع، الفوضى في كل مكان، الثورات والحروب تعمي غبارها الرؤية والبصيرة... لماذا؟ سؤال يتكرر في كل لحظة... لهذه الأسباب وغيرها الكثير، اختارت لينا خوري مسرحية عصام محفوظ {لماذا}، علها تكون لحظة وعي في الغيبوبة العربية الشاملة، ذلك أن ثوراتنا لا تزال إلى الآن ثورات أفراد لا ثورات شعوب.مواقف صادقةتدور أحداث المسرحية في ملهى ليلي، حيث يمثّل الساهرون قصص سرحان سرحان، فرج الله الحلو وأنطون سعادة الذين قبلوا الموت، محكّ كل موقف صادق، وقد استندت لينا خوري، في مسرحيتها، إلى إعادة محاكمة الشخصيات الثلاث، مدخلة الجمهور الحاضر في مسرح المدينة في أجواء سبعينيات القرن الماضي، من خلال أداء الممثلين المتقن الذين حركوا الخشبة من دون حاجة إلى ديكور مبهر. هنا تكمن قوة التناغم بين لينا خوري والممثلين، فكل واحد منهم تقمّص الشخصية التي يجسدها، وأعطاها أبعادها الإنسانية والسياسية وحافظ على تجذرها في الأرض التي دافعت عنها وتقبّلت الموت بصدر رحب في سبيل كرامتها: سرحان سرحان (أسامة العلي)، الشاب الفلسطيني الذي قتل السيناتور الأميركي روبرت كينيدي، رفضاً لدعمه إسرائيل، في الذكرى السنوية الأولى للنكسة عام 1968، فرج الله الحلو (طارق تميم) الزعيم الشيوعي الذي انتقد موسكو حين وافقت على تقسيم فلسطين ودفع ثمن ذلك، الموت تحت التعذيب وتذويبه بالأسيد في سورية سنة 1959، أنطون سعادة (سامي حمدان) مؤسّس {الحزب السوري القومي الاجتماعي} الذي أعدم سنة 1949 بسبب دفاعه عن فلسطين.منذ انطلاقتها في مجال المسرح، بعد عودتها من الولايات المتحدة الأميركية حيث تخصصت في الإخراج، انتهجت لينا خوري خطاً خاصاً بها سارت فيه تصاعدياً في الإضاءة على أمور وقضايا لا تخرج من نطاق الهمس في الصالونات المغلقة، وشرّعتها بواقعيتها على المسرح ومن دون رتوش، طارحة إياها علناً أمام المجتمع.في مسرحية {لماذا} لعصام محفوظ، تستمر خوري في الخط نفسه للإضاءة على حال القرف المهيمنة ليس في لبنان فحسب، بل في البلدان المحيطة، بعدما حادت المبادئ والأسس عن طريقها القويم وأضحت تفصّل على قياس من ينادي بها زوراً وبهتاناً في معظم الأحيان.صرخة مدوية النضال وحقوق الإنسان والحرية والكرامة والمساواة والعيش الكريم والعدالة... قضايا اجتماعية وسياسية ودينية، فقدت معانيها الحقيقية وسط الثورات التي لم تترك زاوية إلا وعاثت فيها فساداً لغياب الوعي على الأصعدة كافة، فتصدت لينا خوري، بما أنها ابنة هذا المجتمع، لهذه المشكلات في مسرحيتها الجديدة، مطلقة صرخة مدوية إلى الشعب بالتحرر من دوامة الكليشيهات التي تصيب الذهن بالكسل والرتابة والاستسلام، بعد سلب إرادته وخضوعه لبعض من يرى أن الوطن والشعب ملكية خاصة يديرها وفق أهوائه.طلال الجردي، علي سعد، محمد عقيل، عبدو شاهين، طارق تميم، أسامة العلي، أحمد الخطيب، ولينا سحاب... نجح هؤلاء الممثلون في رسم عالم تضج فيه التناقضات الإنسانية من كل جانب، عالم يسير وفق ساعة سرحان سرحان وفرج الله حايك وأنطون سعادة، رافعاً شعار الموت في سبيل قضية محقة، في سبيل استرجاع أرض مسلوبة، في سبيل مستقبل أفضل لا مكان فيه للذل والفساد...تندرج مسرحية «لماذا؟» لعصام محفوظ ضمن سلسلة كتبها بعد نكسة 1967، تعكس الغضب والنقمة على ما آلت إليه الأوضاع في المنطقة العربية من بينها: «الزنزلخت» التي كتبها باللهجة العامية عام 1968، و{قضية ضد الحريّة» التي كتبها عام 1975.اختار عصام محفوظ الشخصيات الثلاث، لأنها تختصر بسيرتها ونضالها الحقبات التي سبقت النكسات العربية المتتالية وأعقبتها، وقبلت الموت تحت التعذيب رفضاً للاستسلام، وهو ما لم يعد موجوداً اليوم، ذلك أن الأوطان تباع ولا أحد يحرّك ساكناً، كذلك تعكس هذه الشخصيات النضال الفردي الذي يقوم به أفراد آمنوا بقضية ودافعوا عنها حتى الرمق الأخير.سخرية وتراجيديالا شك في أن المتابع للمسرحية يلاحظ أن لينا خوري نجحت من خلال توجيه الممثلين في نقل هذه الحالات إلى الجمهور الحاضر، بسخرية سوداوية، محولة قاعة المسرح برمتها، بما فيها الجمهور، إلى لاعبين وسط هذا العالم، وإذا بأنطون سعادة يلعلع صوته من بين الشعب، وإذا بطلال الجردي الذي يدير هذه اللعبة على المسرح، ينهيها وسط الجمهور، فانتفت الحدود بين الخشبة والحضور، وصاروا واحداً في النظرة والهدف والغاية وحتى السخرية، ذلك كله ضمن مناخ يجمع التراجيديا والكوميديا في آن، أبطالها رواد ملهى ليلي يتساءلون مجدداً في بيروت في سبيعينات القرن الماضي، عن شعارات الحرية والانفتاح وسط الصخب والتوتر والاستهتار.لينا خوريتخرّجت لينا خوري في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت عام 1997، وحازت شهادة في الإعلام السمعي البصري، سافرت بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية وحازت دبلوم دراسات عليا في الإخراج المسرحي في «جامعة أركنساس» (2002). أستاذة في قسم المسرح في الجامعة اللبنانية- الأميركية، لها أكثر من عشر مسرحيات بين لبنان وأميركا من بينها: «حكي نسوان» (2006)، «مجنون يحكي» (2013)، التي شكّلت عودةً لزياد الرحباني ممثلاً إلى خشبة المسرح، إلى جانب غابريال يمين وندى أبو فرحات. اقتبست وغبريال يمين مسرحية «فينوس» (2015)...