قبل أكثر من قرنين من الزمان، وبالتحديد في نهاية القرن الثامن عشر، حدثت مذابح واضطرابات في فرنسا قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها وبعدها تشبه إلى حد كبير ما يحدث اليوم في العراق وسورية والعالم العربي بصورة عامة، فقد اندلعت الثورة وحدثت الإعدامات بالآلاف، وشهدت فرنسا غزواً ألمانيا وبريطانيا، ومن ثم تدمير فرنسا قبل أن تنهض من جديد مع بدايات القرن التاسع عشر.

Ad

فالحالة التي تعيشها بعض الدول العربية من فوضى وصراع ودمار مرت بها دول وشعوب أخرى في التاريخ، لكن المفارقة أن ذلك حدث قبل أكثر من قرنين من الزمان في دول أوروبية، ويحدث اليوم في عدد من دولنا العربية، فهل هذا يعنى أن الفارق الحضاري بيننا وبينهم أكثر من مئتي عام؟! وهل لدينا المقومات والقدرة على تجاوز هذه المحنة في هذه المرحلة لندخل عصراً جديداً مختلفاً ومستقراً ومتطوراً!

وكان السؤال المطروح لدى نخبة الطبقة الوسطى الفرنسية في أثناء الثورة هو: هل الإرهاب بكل ما فيه من مقالب سبب في تدمير الجمهورية وتفكك بنية الدولة الوطنية؟ لقد ساد فرنسا بعد روبسبير حالة من الفوضى والفساد والانهيار الاقتصادي، أليس هذا ما يحصل الآن في عدد من الدول العربية؟!

إذاً هي حتمية تاريخية أن نمر بمثل هذه الحالة، بيد أن السؤال هو: هل ستنتهي الأزمة، وتنهض هذه الدول كما حدث لفرنسا أم أن الحالة مختلفة والتاريخ لا يعيد نفسه؟! إن طرح مثل هذه الأسئلة لا يعنى أننا نبحث عن تبرير لما يحدث في عالمنا العربي، ولكن لعل تجارب التاريخ تسعفنا في إيجاد حل للأزمة التي نعيشها لأن ويلاتها وآثارها وتداعياتها قد فاقت كل التصورات والتجارب السابقة لها، أم لأننا نعيش هذه المرحلة التاريخية نتصور ذلك، وأن الذي حدث في بعض التجارب التاريخية قد فاق ما يحدث عندنا اليوم. هذا هو التاريخ فكيف نستفيد من تجاربه؟!

السؤال هنا يقول: هل هناك فائدة من طرح تجربة الثورة الفرنسية في ظل الظروف التي نعيشها؟ وبداية الجواب لو لم تكن هناك فائدة من دراسة ذلك الحدث فليس هناك فائدة من دراسة التاريخ وهذه كارثة.

إن طرح الأسئلة التاريخية ليس لإيجاد تبرير لما يحدث في واقعنا بعملية هروب إلى الماضي كما يفعل البعض، بل هو فهم يسعى إلى الاستفادة من دراسة التاريخ للحاضر والمستقبل، فالماضي لم ينته بل هو غارق في الحاضر، ونعرف أن هناك أسئلة تاريخية لم تتم الإجابة عنها حتى الآن، وهذه إشكالية طرحناها في مقال آخر، ولكن التاريخ يعج بالأحداث التي لم تدرس للاستفادة منها، والأمر الذي لا جدال فيه أن مشعلي الحرب الأهلية والصراع الإثني لم يصلوا حتى اليوم إلى فائدة من تلك الحروب، ومع ذلك هم مستمرون فيها ويكررونها، إنه نهج انتقامي يقوم على فرضية "عليّ وعلى أعدائي"، والغباء عدم إدراك أولئك للمتربصين المستفيدين من ذلك الصراع في الداخل والخارج، ليس ذلك فحسب بل تدخل تلك القوى لإشعال تلك الحروب والعمل على استمرارها.

 ولم تنجح حتى الآن في عالمنا العربي ثقافة الحوار، ولا ثقافة السلم الاجتماعي، وثقافة كهذه تسود في ظل التخلف، بل إن ثقافة الصراع الإثني جزء من ظاهرة التخلف؛ لهذا لا يستغرب أحد عندما نرجح إعادة قراءة بعض الأحداث التاريخية مثل الثورة الفرنسية، فهي على الرغم من المشكلات التي صاحبتها ونتجت عنها تركت قيماً حضارية استفادت منها فرنسا والشعوب الأخرى، وإن التاريخ لا يعيد نفسه بالظروف والفكر والنهج نفسها بل يعيد نفسه عندما لا تدرس أحداثه ولا يستفاد منها، ولذلك نحن لسنا بحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ بل إلى إعادة قراءة أحداثه ووثائقه ومصادره الأساسية.