غياب النقد الإعلامي رسّخ {ظاهرة ترامب}!

نشر في 24-03-2016 | 00:00
آخر تحديث 24-03-2016 | 00:00
الكاتبة كلير أوكونر من مجلة «فوربس»؟ «غبية»! مراسلة «أسوشيتد برس» جيل كولفن؟ «واحدة من أسوأ المراسلات»! الصحافية سارة موراي على قناة «سي إن إن»؟ «مريعة للغاية»! أريانا هافنغتون؟ «مهرّجة ليبرالية»! المذيعة ميغن كيلي على قناة «فوكس»؟ «غبية والدماء تخرج من كل مكان في جسمها»!

يصعب التفوق على إهانات وجّهها المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب ضد الصحافيات. هو رجل شوفيني ولا يستطيع تحمّل النقد من امرأة واثقة بنفسها. كانت تلك المراسلات أشهر ضحاياه لكن تطول لائحة المستهدفين الآخرين.

يبدو واضحاً أن المرشح لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب يسيء معاملة الإعلاميين ويريد الحد من حرية الصحافة في الولايات المتحدة، مع أنه يستغلها لنقل رسائله الخاصة. لكن يمكن نَسْب زيادة نفوذه أيضاً إلى امتناع الصحافيين عن انتقاده لفترة طويلة أكثر من اللزوم. «شبيغل» ألقت الضوء على هذه القضية.

طالب دونالد ترامب بطرد مقدّمي المناظرات وقاضى القنوات التلفزيونية، ويصبح الصحافيون هدفاً لهجومه اللفظي في مختلف إطلالاته. وفي كل واحدة من مناسباته الانتخابية، يتوقّف للحظة ويشير إلى الصحافيين المجتمعين في زاوية ضيّقة ويقول عنهم: {هؤلاء الأشخاص بؤساء}!

يحافظ ترامب على علاقة متناقضة مع وسائل الإعلام، فيستغلها من جهة لنشر رسالته وحملته الدعائية، لكنه لا يتوانى من جهة أخرى عن تحقير الصحافيين. حتى أنه يريد كبح حرية الصحافة وقد اقترح حديثاً تشديد قوانين التشهير عبر زيادة العقوبات المالية لدرجةٍ يمكن أن تفلس وكالات الأنباء بالكامل. يمكن وصف التشريع المقترَح بالسلاح الموجّه ضد منتقدي ترامب، حتى أنه استهدف صراحةً صحيفتَي {نيويورك تايمز} و«واشنطن بوست} اللتين تُعتبران من أبرز الصحف الأميركية التي تهاجمه بشراسة.

انتخابات عبر «تويتر»

فهم ترامب أكثر من أي مرشح آخر كيفية التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي للتحايل على  منتقديه. لديه اليوم 6.7 ملايين متابع على موقع تويتر وأكثر من مليون على إنستغرام. في المقابل، يبلغ مجموع متابعي صحيفة {نيويورك تايمز} نحو مليونَين. ادّعى ترامب حديثاً أن فتح حسابه على تويتر يشبه {امتلاك صحيفة {نيويورك تايمز} من دون تكبّد الخسائر}. يكتب أكثر من 20 تغريدة يومياً أحياناً، ما سمح له بتقديم نشرته الإخبارية الخاصة.

مع ظهور تويتر وفيسبوك، خسرت وسائل الإعلام التقليدية جزءاً من وظيفتها الرقابية. تسمح مواقع التواصل الاجتماعي بإقامة تواصل مباشر بين السياسيين والناس. لم يعد الصحافيون يحتكرون المعلومات والمقابلات.  لكن وسّع ترامب هذه الطريقة التي تسمح له بالتحايل على الصحافيين وصَقَلها، فأنشأ بذلك ميداناً عاماً خاصاً به وبدا جميع المتابعين مستعدين لتصديقه. حين لا يجد أي حجة لمواجهة منتقديه، يمكن أن يكتب تغريدة يعتبر فيها أنه يتعرّض للهجوم من وسائل الإعلام الليبرالية. يشبه ترامب في ازدرائه بالخطاب الديمقراطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يُعتبر من ناحية معينة قدوة لترامب. قال الرئيس الروسي لصحافي فرنسي في إحدى المرات إنه إذا شعر بهذه الشفقة كلها على ضحايا الحرب في الشيشان، فيجب أن يخصي نفسه. هكذا استُعمل أسلوب قطب العقارات ترامب في الكلام قبل دخوله إلى معترك السياسة بفترة طويلة.

ليست مصادفة أن يعامل ترامب روسيا بتساهل شديد، فهو يؤكد على ارتباطه بعلاقات شخصية حسنة مع بوتين ويعتبر الرئيس الروسي زعيماً وطنياً قوياً ومبهراً. يجتمع بوتين وترامب في كرههما الفكرة القائلة إن الانتقاد جزء من الديمقراطية الفاعلة. يفضلان إصدار الأوامر للشعب بدل تفسير المسائل له

.

فشل في مواجهته

يُعتبر ترامب وسيلة ترفيهية حتى الآن. لا شيء يمنع بث أي كلمة قذرة على الهواء ويتمتّع ترامب بحضور قوي على الشاشة أكثر من أي مرشح آخر. وصف رئيس مجلس النواب الأميركي السابق نيوت غينغريتش آليات هذا الانتخاب لمقدّمي برنامج FoxandFriends على قناة {فوكس نيوز} المعروفة بنزعتها المحافِظة المتشددة قائلاً: {ينهض ترامب في الصباح ويكتب التغريدات للعالم كله من دون تكبّد أي كلفة، ويمسك بهاتفه ويتصل بكم ويقيم محادثة ممتعة معكم لثماني دقائق تقريباً مع أن أي إعلان تجاري له كان ليكلّفه مبالغ طائلة، فيما يحاول خصومه جمع المال لعرض إعلان خاص بهم}. قال غينغريتش عن البرنامج الذي شكّل دوماً منصة يظهر فيها ترامب: {يمكن أن نقول إن ترامب مرشّح ابتكره برنامج FoxandFriends}.

نشأت دينامية مبنية على التفوق والتبعية مع ترامب وظهر صحافيون لا مكان لهم في أي نظام ديمقراطي.

يكون التحقيق الصحفي أحد عناصر الديمقراطية الأساسية ويهدف إلى الكشف عن معلومات يفضّل أصحاب النفوذ إخفاءها في العادة. فشل أسلوب التحقيق الصحفي مع ترامب. على عكس ما حصل مع هيلاري كلينتون مثلاً في هذه الانتخابات، لم تظهر أي تقارير مهمة ومؤثرة عن ماضيه وأخطائه المالية الخطيرة وحالات إفلاس تكلّف الدولة والمجتمع ثمناً باهظاً، أو عن مواقفه الوحشية حين يقف الناس في طريقه، والإشاعات بشأن روابطه المزعومة مع المافيا في نيويورك، وإقرارات ضريبية لم يكشف عنها بعد مثل جميع المرشحين الآخرين.

تتّكل حملته على ظهوره بصورة الشخصية النافذة ورجل الأعمال الذي لا يخطئ.

بطلة غير متوقعة

من غير المألوف أن تكون {فوكس نيوز} دون سواها أبرز قناة تعاملت مع ترامب بطريقة مختلفة. هدّد المرشّح بمقاطعة مناظرة تلفزيونية كانت ستجمعه مع خصومه الجمهوريين على قناة {فوكس} قبل فترة قصيرة من أولى الانتخابات التمهيدية في ولاية آيوا. كان يُفترض أن تديرها ميغن كيلي علماً أنها كانت قد تجرأت على طرح أسئلة محرجة على ترامب في مناظرة سابقة.

قبل موعد المناظرة، أصدرت القناة بياناً تنتقد فيه ترامب. فطالب الأخير باعتذار وإلا لن يظهر في البرنامج. تحدث روجر إيلز، رئيس قناة {فوكس نيوز} النافذ، مع ترامب مرات عدة على الهاتف لكنه لم يعتذر ولم يغيّر المذيعة. أدارت كيلي المناظرة المسائية ولم يشارك فيها ترامب. بعد أربعة أيام، خسر في ولاية آيوا.

منذ ذلك الحين، أدرك ترامب تأثير غيابه عن شاشات التلفزيون على النتائج التي يحققها في الانتخابات التمهيدية، فشارك في المناظرة اللاحقة التي نظمتها قناة {فوكس} في بداية شهر مارس. لم تتساهل معه ميغن كيلي وواجهته بكلام من خطاباته السابقة التي تناقض مواقفه الراهنة وأجبرته على الاعتراف علناً بأنه {مرن} سياسياً. كان الموقف مسيئاً له.

رغم تعدد المواجهات العدائية مع دونالد ترامب، لا شيء يضمن أن تتراجع نسبة الناخبين الذين يصوتون له أو أن يدرك عدد متزايد من الناس أسلوبه الاستبدادي الشرس في السياسة. لكن أثبتت قناة {فوكس} لترامب أنها تستطيع فرض شروطها. حبذا لو يطفئ الصحافيون جميعاً كاميراتهم ويغادرون المكان حين يثور ترامب ضد الأقليات أو يهدد الإعلاميين في أي مناسبة مقبلة.

إذا أصبح ترامب الرئيس الأميركي المقبل ستتضرر الديمقراطية بشكل كبير، ولن يحصل ذلك لأنه سيحوّل الولايات المتحدة إلى بلد استبدادي فحسب، بل سيعني انتخابه أيضاً فشل مبدأ المراقبة العامة ومفهوم الديمقراطية كله في هذه الانتخابات.

back to top