احتفاءً بمغنية الأوبرا ششليا بارتولي، Cecilia Bartoli، الإيطالية (مواليد 1966)، صدر ألبوم DVD الذي بين يديّ، ويضم أوبرات ثلاث، اثنتان للإيطالي روسّيني، وواحدة للنمساوي موتسارت. تتصدر شَشِليا الأصوات، بطبقتها الوسطى. ولكنها كثيراً ما ترتقي السلم للطبقة العليا بخفة طائر. في صوتها لمسةٌ درامية بالغة الحيوية. تعرّفت على ذلك في إصدار قديم، قدمتْ فيه منتخبات من أغاني (آريات) الموسيقي الايطالي Vivaldi. وفيفالدي، الذي عُرف بأعمال كونشيرتو الكمان الكثيرة، وخاصة كونشيرتو "الفصول الأربعة"، مؤلف رائع للأوبرا، التي لم تتعرض للضوء إلا في السنوات الأخيرة.

Ad

 عملان شهيران في هذا الإصدار: حلاق إشبيليا لروسّيني، ودون جيوفاني لموتسارت. سبق أن أصغيتُ مسحوراً إليهما مرات عديدة، على الأسطوانة السوداء القديمة (LP)، وعلى CD وDVD. ولكن ظمأَ محبّ الموسيقى لا ينفد. وسأقتصرُ في هذا الحديث الموجز على عمل موتسارت. ولعل كثيرين منا يعرف شيئاً عن الشخص/ الأسطورة "دون جوان"، "خوان" في الأصل الإسباني، "جيوفاني" في الإيطالية. حكايته، التي وُضعت في مسرحية إسبانية عام 1630، لـ "مولينا"، شغلت الشعر (بايرون)، والمسرح (مولير)، والسينما (فيلم المخرج الكبير جوزيف لوزي 1979). ولكنها شغلت الموسيقى بالدرجة الأولى، حتى جاء عمل موتسارت ليعتّم بشهرته على الأعمال البقية.

 ظمأ دون جيوفاني (للمرأة أم للحب؟) لا يُطفأ. ما إن ينغمر في واحدةٍ حتى يتوقَ إلى أخرى. يتسم بالدناءة، ولكنه يتسم بالقلبية، بالشجاعة والتحدي أيضاً. هذه الخصائص المتعارضة تتضحُ بلغة موتسارت الموسيقية، ولغة كاتب اللبريتو "دي بونتي" الشعرية. نبدأ معه وهو يهرب من مخدع "دونا أنّا"، التي اغتصبها في العتمة (أو حاول ذلك)، دون أن تتعرف عليه. تخرج على أثره غاضبةً مهددة بالانتقام. يحاول والدُها الشيخ (أحد الفرسان المتقاعدين) الانتقام، فيقتله دون جيوفاني في مبارزة غير متكافئة. في المشهد التالي نتعرف على "دونّا ألفيرا"، تلاحقه على وعده بحبه الأبدي، سيدةٌ أرستقراطية ممزَّقة بين الحبِّ المحترق، والرغبة في الانتقام. يواجهها خادمُه "ليبوريلّو"، ليكشف لها حقيقةَ سيده الذي لا يجرؤ على التخلي عنه، في أغنيته المعروفة بـ"القائمة": "أيتها السيدة العزيزة، هذه هي القائمة/ للنساء اللواتي أحبهن سيدي/ القائمة التي جمعتُها، راقبتُها/ في إيطاليا، 640/ في ألمانيا 231/ 100 في فرنسا، 91 في تركيا/ ولكن في إسبانيا بلغت الآن 1003/ بينهن ريفيات/ وصيفات، بنات مدن/ كونتيسات، بارونات/ نساء من كل رتبة/ وكل هيئة، وكل عمر..."، (أغنية أدعوك إلى اللحاق بها، إن كنت صاحب فضول، في اليوتيوب، لتسمعها على أصوات مغنين عدة).

 جيوفاني يسعى ثالثةً إلى إغواء عروس من الريف "زَرلينا"، يُغريها بكلام معسول (الأغنية المشتركة الآسرة: "هناك سوف نُشبك أيدينا ببعض")، يكسب ويهرب كالعادة، حتى أنه، لكي يتجنب مخاطر انتقام الملاحقين الذين كثروا الآن، يتبادل مع خادمه اللباسَ، ويعرّض المسكين للمخاطر. أخيراً يلوذ هو وخادمه بمقبرة، وهناك يسخر ضاحكاً من خادمه، فيفاجئهما صوتٌ مريع (طبقة خفيضة) يصدر عن تمثال الشيخ القتيل، يتوعده بأنّ ضحكه هذا لن يمتد إلى ما بعد مشرق الشمس. وبجرأته المعهودة يدعوه جيوفاني إلى مأدبة في بيته، فيوافق تمثال الميت. وفي البيت يتصافحا فيجفل جيوفاني من قوة وبرودة يد الميت. وعلى حين غِرّة يسحبه معه إلى حفرة تنفرج بنيرانها، هي مدخل الجحيم المنتظر. ولكي يخففَ موتسارت من ردة فعل جمهوره، يختم عمله بأغنية جماعية من ضحايا جيوفاني: "هذه هي نهاية الفاسق".

 المشاركون مع "شِشلي بارتولي" في تقديم هذه النسخة الرائعة متوفرون في الإنترنت. ومتوفر الكثير من الاجتهادات في النظر إلى شخص دون جيوفاني، إذا ما كان نموذجاً للبطل في "عصر التنوير"، الذي يقف بصلابة في وجه الإرث الديني والاجتماعي والنفسي، الذي يقبض على حياة الكائن وحريته. حتى ليُبرّأ من جريمة القتل، لأنه كان موضع تحد لا خيار له فيه، وتبرئة من الاغتصاب الذي لا دليل عليه.

 يكفي أن نعرف مقدار الكتب التي وضعت في دراسة هذه الأوبرا، من النقاد ومن كتاب كبار مثل كيركيغارد، وسيمون دي بوفوار، وألبير كامو وبرناردشو.