بعد المقارنات بين آدم الأول وآدم الثاني كما جاء في مقالة سابقة فيما يتعلق بالشخصية الإنسانية، يستخلص الكاتب ديفيد بروكس مؤلف كتاب The Road to Character وترجمته «الطريق إلى جوهر الشخصية الإنسانية»، أن الركون إلى صفات آدم الأول فقط، قد تحيل الإنسان إلى مجرد كائن يمتلك الحصافة والمهارة وإتقان بديهيات العمل الوظيفي، ولكنه لا يمتلك أدنى فكرة عن المعنى الحقيقي للحياة. بل ربما- في زحمة اهتماماته بالبناء الخارجي لشخصيته المهنية– قد لا يرى الغاية الأبعد من وراء تكريس تلك الجهود، فيعيش في حالة من التيه والقلق من عدم القدرة على معرفة القيمة الحقيقية لحياته وإسهاماته.

Ad

ثم يقرّ المؤلف بأن كتابه سيكون حول آدم الثاني، وحول كيفية مقاربة هذا النموذج من الشخصية الإنسانية. وآدم الثاني لا ينطلق في تكوينه الذاتي من شعوره بتواضعه ومحدودية قدراته فقط، وإنما من معرفته الصحيحة بقدرته على مواجهة هذا الضعف الإنساني والاشتغال على هناته ونواقصه، ومن خلال هذا الاشتغال الدؤوب على نقاط ضعفه تكون المواجهة مع الذات وبناء الشخصية ولعب الدور المنوط  به في رحلة الحياة. وهو بهذا يهدف إلى غاية أبعد من مجرد الشعور بالسعادة، لأن الفرصة سانحة أمامه في كل لحظة لإحراز ما يعزز فضائله النفسية وما يجعل منه أداة متاحة لخدمة العالم.

أمثال هؤلاء الناس – وسوف يتمثل الكاتب بسيرهم في فصول لاحقة – لا يجعلوننا نفكر بما أنجزوه رغم عظمته أو أهميته، ولكنهم يجعلوننا نفكر بهم ونتذكرهم. ولعلنا في حياتنا اليومية نصادف بعض هؤلاء الناس المتصفين بالتوازن وإن ارتدوا هيئة البسطاء، وغالباً ما تغشاهم السكينة والرزانة والتماسك. إنهم ليسوا من أولئك الذين تهزهم الريح أو تطيح بهم المحن ، فعقولهم مكينة وقلوبهم يمكن الركون إليها. إن فضائلهم ليست بتلك الفضائل الساحرة التي تجدها لدى الأذكياء من خريجي المعاهد العلمية، وإنما هي فضائل أنضجها التعلّم من السعادة والألم طوال مشوار العمر.

في معظم الأحيان قد لا تلاحظ  أولئك الناس، فرغم طيبتهم وبشاشتهم فإنهم أيضاً متحفظون. بيد أنهم يمتلكون تلك الإشراقة النفسية التي تدفعهم إلى أن يكونوا قيد المنفعة للآخرين دون الحاجة إلى إثبات هذا الجهد للعالم، بل يعملون بصمت وتواضع وتكتّم وزهد في الظهور . إنهم يشيعون لوناً من الغبطة الأخلاقية حين يستجيبون بهدوء للتحديات الفجّة، ويلتزمون الصمت حين يُضامون، ويتحلون بعزة النفس حين يُؤذَون والتماسك حين يُستفَزون. ولكنهم في كل الأحوال ينجزون في خلواتهم، ويكرسون طاقاتهم للخدمة والعطاء بتلقائية وبساطة متناهيتين كقيامهم بأي عمل روتيني يومي. إنهم لا يضعون في الاعتبار الأثر الذي ستركونه بل إنهم لا يفكرون بأنفسهم على الإطلاق، وإنما يستشعرون الغبطة إزاء الثغرات التي سدوها والحاجات التي قضوها للناس من حولهم.

من صفاتهم أنهم يجعلونك تشعر بأنك أكثر فطنة حين تتحدث إليهم، بل لعلك تتذكر أنك لم تجدهم قط  يتنطعون أو يستعرضون صواب آرائهم أو مطلق يقينهم، أو يبادرون بتلميحات أو إشارات حول مميزاتهم أو إنجازاتهم. قد لا تستطيع أن تقول بأنهم يعيشون مطلق السكينة، ولكنهم في كدح دائم للوصول للنضج من خلال مغالبة مصاعب الحياة وإيجاد الحلول لها.

أولئك هم الأشخاص الذين يشتغلون على بناء الشخصية الداخلية المتسمة بالعمق والصلابة. وهم خلال كدحهم المتواصل يدركون أن النجاح ما هو إلا معايشة مستمرة لهذا الكدح الذي يعمق جوهرة الروح. وربما بعد دهر من محاولة المواءمة بين (آدم الأول وآدم الثاني)، سوف ينحنى آدم الأول أمام آدم الثاني احتراماً وتبجيلاً.