حين تنتظم أجزاء الأُحجية
أحياناً تصادفك وأنت بصدد القراءة في موضوع جاد حكاية جميلة أو مؤثرة تأتي على هامش الكتاب أو بين تضاعيفه، فتراها تستدعي الوقوف أو التأمل ملياً. استوقفتني مثلاً تلك الحالة من التوافق القلبي والعقلي في قصة الحب بين الفيلسوف الإنكليزي بيرلن والشاعرة الروسية أنّا أخماتوفا، ولعلها من أشهر قصص الشغف والتلاقي العقلي التي اتخذت منحىً درامياً لافتاً، والتي تمّت وتبلورت في ليلة واحدة فقط. (حدث ذلك المشهد عام 1945م في مدينة ليننغراد. وكانت الشاعرة أنّا أخماتوفا - التي تنتمي إلى شعراء جيل ما قبل الثورة الروسية – تكبر الفيلسوف الانكليزي بيرلن بعشرين عاماً. وقد عانت أخماتوفا مَنْعَ النشر لشعرها منذ 1925م، كما تم إعدام زوجها السابق بناءً على قضايا كيدية عام 1921م. وفي عام 1938م تم اعتقال ابنها وسجنه، ولم يشفع لها الوقوف الصامد خارج السجن مدة سبعة عشر شهراً انتظاراً لأخبار أو معلومات عنه.
لم يكن بيرلن يعرف الكثير عن أنّا أخماتوفا حين زار مدينة ليننغراد، وقد تبرع أحد الأصدقاء بتعريفه بها، حين أخذه إلى بيتها، ليلتقي المرأة التي ماتزال جميلة وقوية ولكنها جريحة النفس من أثر الاستبداد والحرب. في البداية كان الحديث بينهما متحفظاً ودائراً حول تجارب الحرب وحول الجامعات البريطانية بينما كان بقية ضيوف تلك الأمسية يأتون ويذهبون. وحوالي منتصف الليل كان المكان قد فرغ إلا منهما، وكان يجلسان متقابلين في زاويتي الغرفة. حدثته أنّا عن فترة صباها وزواجها وإعدام زوجها. ثم بدأت تلقي مقاطع من شعر بايرون بشغف وإحساس متوقّد، لدرجة أن بيرلن أشاح بوجهه نحو النافذة ليخفي عنها شدة تأثره بما يسمع. ثم أتبعت ذلك بإلقاء بعض مقاطع من شعرها تصف فيها حادثة إعدام أحد رفاقها، وانهارت تأثراً بما تقرأ. وحين جاوزت الساعة الرابعة صباحاً كانا قد بدآ الحديث عن عظماء الكُتّاب، واتفقت آراؤهما حول بوشكين وتشيكوف. وبينما أحب هو شرارة الذكاء لدى تورجنيف فضّلت هي دوستوفيسكي ورؤيته العميقة المعتمة. شيئاً فشيئاً بدأت روحاهما تقتربان، فباحت له بألم الوحدة وبواطن شغفها بالأدب والفن، في اللحظة التي لم يكن فيها بيرلن بقادر على التحرك من مكانه خشية تبخر سحر اللحظة. إنهما يكادان يتفقان فيما يقرآن وفيما يعرفان ولديهما ذات التوق والشغف. وكما وصف أحد كتّاب السيرة بعد ذلك، فإن "حياة بيرلن في تلك اللحظات كانت أقرب للوحة فنية مثالية ومكتملة". وأخيراً استطاع بيرلن أن ينتزع نفسه في الحادية عشرة صباحاً من تلك الجلسة ويعود إلى فندقه، ثم تساءل وهو يلقي بنفسه فوق السرير: هل وقعتُ في الحب يا ترى؟ لقد كانت الليلة التي قضاها بيرلن وأخماتوفا معاً تُعد جوهرة فريدة في فن التواصل، ذلك التواصل الذي تكون فيه المعرفة (موضوع الحوار) ليست مجرد ثبت من المعلومات، وإنما أعمال عظيمة في الثقافة والإنسانيات والميراث الفكري والوجداني وحكمة الوجود. فتخلق ذلك التواصل والتوافق الفكري الذي يستحيل إلى حالة من التقارب العاطفي، والذي كان يختبره كلاهما ويسشعرانه من خلال الحوار الذي شكّل نقطة التحول. وما كان ذلك إلا بسبب ما أنجزاه من قراءة واطلاع، وما تعلقا به من أفكار عظيمة وكتب عظيمة تعلم الإنسان كيف يعيش الحياة في أكثر وجوهها ثراءً، كما تعلمه كيف يصدر أحكامه الأخلاقية والعاطفية بحصافة وذوق. لقد كانا ينطويان على ذلك الطموح الروحي، وعلى تلك اللغة الأدبية المشتركة التي صاغها عباقرة الكتّاب الذين غالباً ما يفهموننا أكثر مما نفهم أنفسنا. لقد شكلت ليلة اللقاء تلك لوناً من الرباط القلبي الذي اعتمد على مجموعة من المصادفات التي ربما لا تحدث – إذا حدثت - غير مرة واحدة أو مرتين في العمر. لقد شعر كلاهما بأن أجزاء الأحجية المبعثرة آخذة بالانتظام بشكل مدهش، وأن التناغم بينهما كان قد أطاح بكل خطوط الدفاع في ليلة واحدة. لقد كان الرباط بين الاثنين – كما عبّرت أخماتوفا في شعرها لاحقاً – رباطاً فكرياً ووجدانياً وروحياً في الدرجة الأولى، وكان قادراً على صنع ذلك المزيج من الصداقة والحب).