«مضايا»... تفصيل
![د. بلال عقل الصنديد](https://www.aljarida.com/uploads/authors/279_1682431680.jpg)
لا شك أن الموت جوعا هو أشد أنواع الموت وجعاً وإذلالاً، وصحيح أن أقلامنا مهما كتبت ومقلنا مهما فاضت وقلوبنا مهما نزفت لن تخفف من حرقة كبد أم جائعة يموت طفلها أمام عينيها تضوراً، وهي عاجزة عن إسكات أنين أحشائها، وعن صم أذنيها عن حشرجة الروح المنزوعة من ثغر وليدها! ولكن الموت المجاني الذي يسود عالمينا العربي والإسلامي هو أكثر حضورا في يومياتنا لدرجة الاعتياد عليه، حيث لم نعد نأبه لمقتل خمسين عراقياً بتفجير سيارة مفخخة، ولم يعد يلفتنا مشهد طفل فلسطيني يعتقل أو يقتل أو يمثل بجثته، وصرنا نرتاح لاقتصار ضحايا القصف الجوي على عدد قليل من الضحايا، كما أن البعض منا صار يفرح لمقتل الآلاف ممن يخالفه الرأي!"مضايا" ليست مبتدأ بل هي الخبر العاجل والمخزي لإنسانيتنا، هي استتباع لاختلافنا على شنق معارض أو تمجيد موالٍ، وهي صورة عن انقسامنا حول تاريخ وحاضر ومستقبل أمتنا التي علمونا في الدارسة أنها "واحدة وذات رسالة خالدة". الموقف من "مضايا" ذكرني بموقف هزلي لبناني محوره تهليل البعض لخروج عميل إسرائيلي من السجن مقابل خروج عميل آخر من توجه سياسي مختلف! كما ذكرني بكاريكاتير "فيسبوكي" يصف الخلاف المستجد والمتجدد بين السنّة والشيعة على أنه خلاف بين مجموعة من الحمير الوحشية السوداء المخططة بالأبيض مع مجموعة حمير أخرى بيضاء مخططة باللون الأسود! التضامن مع "مضايا" لازم مهما "فبرك" الإعلام من صور وأخبار، والشعور مع أطفالها هو حق لإنسانيتنا وواجب علينا، فلا فرق إن مات أهلها أم هم قاب قوسين أو أدنى، ولا فرق إن مات بعضهم أو بالغ ناقلو الخبر عن وجود موت جماعي... الموت والقتل والأحقاد المتبادلة هي القضية.المسألة لا تقتصر على صورة طفل دامع التقطت في فلسطين أو في العراق أو في الصومال، أو في فيينا حتى، ومن ثم نسبت زوراً الى أطفال مضايا، فلا يهم مذهب، ولا ولاء، ولا عقيدة الطفل الجائع وأهله، ولا تعول إنسانيتنا على أهداف الحملات الإعلامية التي يقول عنها الإعلام المضاد إنها من أجل إخراج آمن للإرهابيين من "مضايا" بإحراج النظام السوري وأعوانه.ومن واجبنا ومن حقنا أن نتضامن مع ألم كل طفل وامرأة وشيخ وضعيف في سورية، ومع كل من حرم من قريته ومن جامعته، ومع كل من اشتاق لأمنه وأمانيه، ومع كل من فقد رونق مستقبله وخسر روعة ذكرياته، في "اللاذقية" أو في "مضايا"، في "حلب" أو في "الغوطة"، في الشام أو في العراق، لا تسيّسوا الإنسانية! ولا تحقروها!معيب علينا أن نمذهب الألم وأن نحزبه، معيب علينا أن تغرق أوطاننا في بحور الدماء وتنام ضمائرنا قريرة الأعين، معيب علينا أن نمارس العنف الذاتي على صوت داخلي يخاطب إنسانيتنا، معيب علينا أن نشارك بجلد ذاتنا وباغتصاب أمهاتنا وبترميل أخواتنا، وأن نتورط بالتطبيل ونكتفي بالتنديد، أو أن نسارع إلى جمع التبرعات التي لا نعرف أين يغطّ جناح حمائمها!لا فرق بين الطفل السوري الكردي "إيلان"، و"نادية مراد باسي" الفتاة الأيزيدية التي انتهك حرمة عفتها وحوش "داعش"، ولا فرق بين طفل استشهد في "قانا" الجنوب اللبناني وألم عجوز هجّرها الاقتتال البغيض في سورية أو في العراق، ما يجب أن نفعله لأطفال "مضايا" وشيوخ سورية وضعاف الكون هو أن نوقف الحرب القذرة، وأن نستعيد آدميتنا التي لا يرضى عن فقدانها رسول أو إمام، ولا يبرر صمتها مذهب أو دين، ولا يغطي عورتها تاريخ أو مجد!