أنطوان مكرزل: الحاج سبّاق في الدفاع عن اللسان العربيّ

نشر في 14-03-2016 | 00:01
آخر تحديث 14-03-2016 | 00:01
• «جائزة كمال يوسف الحاج في الإبداع الفكري» في دورتها الأولى
يصنع الفكر الفلسفي حضارة الشعوب التي تتألّق بأقلام فلاسفتها ومفكريها، مع الشباب تكمن قوة التغيير، لا يمكن للإنسان أن يبدع إبداعاً عبقريّاً إلّا في لغة واحدة هي لغته الأم... حقائق لطالما آمن بها الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج، فتمحور نتاجه الفكري حول كيانية إنسانية ووطنية، تكمن خطوطها العريضة في أن الخلاص لا يمكن بلوغه إلا بالثقافة، ولا يستقيم السلام القائم على الحقيقة والعدالة والمحبة والحريّة إلا بإكبار الكلمة المبدعة، وأن الشعوب تتألّق بأقلام فلاسفتها ومفكريها...

غاب كمال يوسف الحاج في سبعينيات القرن الماضي إبان الحرب التي عصفت بلبنان، إلا أن فلسفته بقيت يتردد صداها بين الأجيال، وها هو اليوم «بيت الفكر- أَسَسيّة كمال يوسف الحاج»، يطلق «جائزة كمال يوسف الحاج في الإبداع الفكري» التي ستنطلق دورتها الأولى في أبريل 2016، بهدف تحفيز الإبداع الفكري في أوساط الشباب المثقفين في لبنان بما يسهم في تعزيز الإنتاج الفلسفي في لبنان ومحيطه العربي.

حول الجائزة ودور الفيلسوف كمال يوسف الحاج في إرساء نواة شباب مثقفين يبنون وطناً يستحق أن يعاش، كان الحوار التالي مع أنطوان فرحات مكرزل (ماجستير في الفلسفة)، مقرر مجلس أمناء «بيت الفكر- أَسَسيّة كمال يوسف الحاج»، وعضو هيئة التنظيم الإداري لـ «جائزة كمال يوسف الحاج في الإبداع الفكري».

لماذا اسم «بيت الفكر- أَسَسيّة كمال يوسف الحاج»؟

أُنشئ «بيت الفكر- أَسَسيّة كمال يوسف الحاج» في عام 2014 بموجب ميثاق خاصّ جمع أطرافاً مرموقة عدّة أبدت حرصاً على العناية بالتراث الفكريّ اللبنانيّ في مجمل تعبيراته، وحفظه للأجيال الآتية، وتعزيز الإبداع الفلسفيّ في لبنان الغد. تنصبّ اهتمامات بيت الفكر على شؤون فكريّة بحتة. والعمل الأوّل الذي أنجزه، على هذا الصعيد، هو إصدار المجموعة الكاملة لمؤلّفات الفيلسوف اللبنانيّ كمال يوسف الحاج في أربعة عشر مجلّداً، مع مجلّد تقديميّ تناول سيرة الحاج، ومقدّمات، والمنهجيّة التي اعتُمدت في الإصدار (صدرت المجموعة في مارس 2014). وسيعنى بيت الفكر، في مراحل لاحقة، بإصدار الأعمال الكاملة لعدد من كبار المفكّرين اللبنانيّين. وثمّة أهداف أخرى نصّ عليها ميثاقه، منها تخصيص منح جامعيّة سنويّة على اسم الحاج تُقدّم للطلّاب الواعدين، ورعاية «جائزة كمال يوسف الحاج في الإبداع الفكري»، وهي جائزة سنويّة ستنطلق دورتها الأولى في الثاني من أبريل 2016، فضلاً عن نشاطات أخرى منصوص عليها بالتفصيل في طيّات الميثاق.

 وتسمية «بيت الفكر» مستوحاة جزئيّاً من سابقة «بيت الحكمة»، المؤسّسة الّتي أطلقها الخليفة العبّاسي عبدالله المأمون وأرسى بها معالم أوسع نهضة ثقافيّة في التاريخ العربيّ القديم. وسيكون طموح بيت الفكر، على هذا الغرار، استنهاض حركة فكريّة وفلسفيّة رائدة في لبنان وديار الضاد إبرازاً للقيم الإنسانيّة الجوهريّة، وإفصاحاً عن رسالة لبنان الباقية في دنيا الكلمة، واسترجاعاً لتاريخه الفلسفيّ العريق قديماً وحديثاً، وإغناءً للمكتبة الثقافيّة العالميّة بتراث رفيع من البيان الفلسفيّ الناطق بالعربيّة انطلاقاً من لبنان.

أمّا لماذا «أَسَسيّة» وليس «مؤسّسة»، كما هي العادة، فلأجل التمييز بين نوعين من الجمعيّات، تبعاً لاهتماماتها. فثمة، كما هو معروف، تلك المتّسمة بمعنى شكليّ عامّ، وهي تُميَّز في لغات أخرى بتسمية Institution، وتلك التي تحمل طابعاً معنويّاً هادفاً، ولها تُخصَّص كلمةFoundation . ولمّا كان بيت الفكر من نوع المؤسّسات الثانية، وحيث إنّ ثمّة عدم تمييز بين المعنيين في المتداوَل العربيّ المعهود، إذ يقال «مؤسّسة» في الحالتين، وضع نجل الفيلسوف الحاج، الدكتور يوسف كمال الحاج، هذا المصطلح الجديد، «الأسَسيّة»، انطلاقاً من لفظة «الأَسَسْ»، وهي لفظة فصيحة واردة في «لسان العرب» وتعني الأساس والقاعدة.

الناشئة والفيلسوف

تتوجّه «جائزة كمال يوسف الحاج في الإبداع الفكريّ» حصراً إلى جيل الناشئة، أتلامذة كانوا في المدارس أم طلّاباً في الجامعات. ما الهدف من هذا التوجّه؟

تتوجّه الجائزة إلى الناشئة بالفعل، وليس إلى الباحثين المتمرّسين. والمُراد من هذا التوجّه المخصوص تحفيز الأدمغة الفتيّة، المتوثّبة، على بلورة خياراتها حول الفكر والوجود منذ بدايات العمر الخلّاق، وتظهيرها، وتوضيحها، وتعميرها بصورة إيجابيّة. بذلك نربح للمستقبل نواة نشطة من المبدعين، الناشئين، من أصحاب القدرات البحثيّة والعقليّة الفذّة التي يؤمل، مستقبلاً، وضعها في خدمة مقاربة شموليّة فلسفيّة واعية لكلّ المعضلات الوجوديّة والكيانيّة على المستويين الشخصيّ والمجتمعيّ. ولا بأس إن أشرت هنا إلى أنّ الفيلسوف الحاج كان يعوّل كثيراً على الشبيبة المثقّفة، ويرى فيهم خميرة المستقبل، والرهان الناجح الذي تُعقد عليه أكبر الآمال.

هل يستطيع هذا التوجّه أن يضع الطلّاب على السكّة الصحيحة بحثاً عن أجوبة صحيحة حول أسئلتهم في الوجود والحياة، وحتّى السياسة، وسط هذه الفوضى المستشرية في القيم والمفاهيم؟

أجبت، في ما سبق، عن جزء كبير من هذا السؤال. وإنّي لعلى يقين راسخ من أنّ تقديم تجربة فلسفيّة نموذجيّة رائدة، كالتجربة التي عايشها الفيلسوف الحاج ووثّقتها لنا، بأبهى حلّة، في مجموعة مؤلّفاته الفلسفيّة الكاملة، تعينهم كثيراً على تجاوز الفوضى المحيقة بهم، وتكشح عن دروبهم زيف الخداع والتعمية والتضليل. المهمّة الأولى للفلسفة هي إجلاء المفاهيم وتحديدها تحديداً عقلانيّاً دقيقاً وصارماً، وترسيخ القيم السامية، والدفاع عنها دفاعاً لا هوادة فيه. هذا ما فعله سقراط، مثلاً، عندما تصدّى للسفسطائيّين في مجتمعه الإثينيّ، فأقام ذاك البناء الركين، الراسخ أبد الدهر، لأجل ثبات المفاهيم ودقّتها، وحرمة القيم ورسوخها.

الفلسفة واللغة

تقولون إنّ «جائزة كمال يوسف الحاج في الإبداع الفكريّ» ذات محورين: مباراة تلامذة المدارس والمباراة المفتوحة. وموضوع مباراة تلامذة المدارس لهذه السنة هو «نحن والفلسفة». ما دور الفلسفة، اليوم، في خضمّ عالم لاهث وراء تكنولوجيا توفّر له كلّ شيء، بل ربّما تفكّر عنه؟

للفلسفة دور محوريّ ورائد في مجابهة ما يعانيه الإنسان من أزمات تتناول كيانه ومصيره. ولطالما أدّت الفلسفة هذا الدور في جميع الحقب والعصور، ابتداءً من الإغريق ووصولاً إلى زماننا الراهن. نعم، لطالما وقف الفلاسفة في طليعة المتصدّين للمعضلات التي تعانيها مجتمعاتهم. سقراط، مثلاً، تصدّى لما كان مجتمعه يعاني أزمات على الصعيدين المعرفيّ والأخلاقيّ. كذلك فعل أفلاطون، من بعده، حين أقام بناءه الفلسفيّ ترسيخاً للعدالة في المجتمع الأثينيّ. أضف إلى ذلك ما فعله فلاسفة عصر التنوير في فرنسا. وهذا ما فعله كمال يوسف الحاج أيضاً في فلسفته الالتزاميّة، مستخدماً الطرائق الفلسفيّة بغية استجلاء الحلول الناجعة لمشاكل مجتمعه. ستبقى الفلسفة دوماً أمينة لهذا الدور، وخشبةَ خلاصٍ مرجوّة في خضمّ ما يحيق بالإنسان، وبالمجتمعات الإنسانيّة، من أزمات على مستويات مصيريّة عدة. صحيح أنّ الفلسفة كانت تنكفئ عن هذا الدور في مراحل تاريخيّة معيّنة، لكنّها سرعان ما كانت تستعيده. فبعد أن نعى كارل ماركس الفلسفة في كتابه “بؤس الفلسفة”، عادت تستحرّ استحراراً لا مثيل له. دليلنا على ذلك الفلسفات التي نشأت في القرن العشرين، من وجوديّة وشخصانيّة وبنيانيّة ومظهريّة، وغيرها الكثير من المذاهب الفلسفيّة.

صحيح أنّ التكنولوجيا سادت عصرنا الراهن، وأنّ عالمنا يسعى وراءها لاهثاً. لكنّ هذا الأمر بالذات سيزيد من الحاجة الملحّة إلى الفلسفة. لقد حقّق الإنسان، بالتكنولوجيا، إنجازات تكاد لا تُصدّق، لكنّها لم تملأ الفراغ الذي يعانيه اليوم، على مستويات كثيرة، كما لم يعانه أبداً سابقاً.

موضوع «المباراة المفتوحة»، المتوجّهة إلى طلّاب الجامعات وكلّ راغب حرّ من عمر الثلاثين فما دون، هو “فلسفة اللغة عند كمال يوسف الحاج”. لماذا اختيار هذه القضيّة بالذات؟ ما أهمّيّة اللغة في فلسفة الحاج، هو المعروف بدفاعه الفلسفيّ المتألّق عن اللغة العربيّة؟

في رأيي أنّ لجنة تحكيم المباراة المفتوحة، إذ تعمّدت اختيار «فلسفة اللغة عند كمال يوسف الحاج» موضوعاً لدورتها الأولى (2016)، إنّما فعلت ذلك بالنظر إلى أهمّيّة الموضوع وركنيّته في صرح الحاج القلميّ. ففلسفة اللغة تشكّل الفكرة المحوريّة الأمّ في نظامه الفلسفيّ. اللغة، عنده، غاية لا واسطة. واستطراداً، لا يمكن للإنسان أن يبدع إبداعاً عبقريّاً إلّا في لغة واحدة هي لغته الأم. لقد انطلق الحاج من اللغة وعاد إليها. هي ألف بداية مسيرته الفلسفيّة وياء نهايتها. قال بنفسه إنّه انطلق «من اللغة كناسوت» وانتهى إلى «اللغة كلاهوت». من فلسفة اللغة انطلق، وإلى دين اللغة انتهى. لنعد إلى بدايات مساره الفلسفيّ. بعد أن صاغ نظريّته الفلسفيّة في اللغة الأمّ، وهي أولى نظريّاته الكبرى، اندفع يذود عن اللسان العربيّ. وذوده الفلسفيّ عن العربيّة هو من أقوى ما سيق في هذا الباب، ومن أكثره ابتكاراً وأصالة. لذا أستحقّ، عن جدارة، لقب «فيلسوف اللغة العربيّة». سبّاقاً كان الحاج في خوض معترك الدفاع الفلسفيّ عن اللسان العربيّ، تطبيقيّاً، بعد استكمال عمارته الفلسفيّة النظريّة حول اللغة- الأمّ (للتذكير: هذه اللفظة العربيّة الأخيرة هي من وضعه هو). كان ذلك في نهاية الأربعينيّات وبداية الخمسينيّات من القرن الماضي. وأثارت نظريّاته، في البداية، استهجاناً ورفضاً غير مألوفَين، لكنّها لاقت الاستحسان والقبول في ما بعد. ولا بأس إن ذكرْتُ، ههنا، أنّ الأمم المتّحدة أعلنت، منذ عام 2012، تخصيص يوم عالميّ للغة-الأمّ، داعية الدول والهيئات الأكاديميّة والثقافيّة إلى الاحتفال به في شهر مارس. جرى ذلك بعد مرور ستّين سنة، تقريباً، على صدور كتاب الحاج الشهير، «في فلسفة اللغة»، عام 1956.

ترقي الشعوب

آمن كمال يوسف الحاج بأنّ للشعب المتفلسِف وحده حقّ الصدارة في مجالس الأمم الراقية. هل تهدف الجائزة إلى إعادة بناء هذا الشعب انطلاقاً من شبيبته بالذات؟

آمن كمال يوسف الحاج، بالفعل، أنّ «للشعب المتفلسِف وحده حقّ الصدارة في مجالس الأمم الراقية. وحده تُسمَع كلمته عبر التاريخ. وحده يقيم رجّة في مساحب الزمن. فيقود ولا يُقاد». لذلك أنزل الفلسفة إلى الساح، وأوقف جهده الفلسفيّ، بأكمله، لأجل أن يتاح لشعبه تصدُّرَ «مجالس الأمم الراقية»، وإسماع «كلمته عبر التاريخ»، واستعادة حقّ الريادة والقيادة. وما تهدف إليه الجائزة، في ضوء هذا الهدف السامي، هو تحفيز الشبّان والشابّات على اللجوء إلى الفلسفة، واستخدام الطرائق الفلسفيّة المعهودة في مجابهة ما يعترضهم من معضلات، فتتكوّن بين ظهرانَيْهم نواة صلبة من الباحثين، متمرّسة في أصول العمل الفلسفيّ وفق متطلّباته الدقيقة والصارمة. وهكذا يتبوّأون المركز الحضاريّ الرفيع الذي يطمحون إليه. ومتّى تمّ بناء الشبيبة على مثل هذه المرتكزات الصلبة، يزدهر بناء الشعب انطلاقّا منها.

back to top