الواقعية البراغماتية أو الهلاك

نشر في 04-03-2016
آخر تحديث 04-03-2016 | 00:01
من الصعب النظر إلى القرارات التي اتخذت على مدار السنوات الأربعين الماضية باعتبارها أي شيء غير فشل عميق من جانب المؤسسات العامة المسؤولة عن صياغة التقدم الاقتصادي في الولايات المتحدة.
 بروجيكت سنديكيت يكاد يكون من المستحيل تقييم التقدم الذي أحرزه اقتصاد الولايات المتحدة على مدى العقود الأربعة الماضية دون الشعور بخيبة الأمل والإحباط، فمن منظور "الأميركي النمطي"، أهدرت البلاد ما يقرب من ثلث الطاقة الإنتاجية المحتملة في أوجه إنفاق لا تضيف شيئاً إلى الثروة الحقيقية أو دمرتها الأزمة المالية عام 2008.

منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، زادت الولايات المتحدة الإنفاق على إدارة الرعاية الصحية بنحو 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وزادت من الإنفاق على الرعاية الصحية غير الضرورية بنحو 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولم تحذ بلدان مثل كندا والمملكة المتحدة وفرنسا حذوها، ومع ذلك لم يكن أداؤها أقل ــ إن لم يكن أفضل ــ في ضمان صيانة صحة مواطنيها.

من ناحية أخرى، وخلال نفس الفترة، أعادت الولايات المتحدة توجيه الإنفاق بعيداً عن التعليم والبنية الأساسية العامة والتصنيع ونحو تقديم الحوافز للأثرياء، في هيئة تخفيضات ضريبية غالبا.

والآن تنفق الولايات المتحدة 10 في المئة زيادة على ما كانت تنفقه لتيسير تكديس الأثرياء للمزيد من الثروات، ولكنها خفضت الاستثمار العام في رأس المال المادي والبشري بنحو 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بما كنا نتوقعه إذا اتبعت أنماط الإنفاق اتجاهات تاريخية.

فقبل أربعين عاما، على سبيل المثال، كانت الولايات المتحدة تنفق ما يقرب من 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على التمويل، واليوم، تنفق ضعف هذا الرقم. وكانت النتائج مأساوية، فبرغم ادعاءات النخبة الثرية بأن رؤساء الشركات المالية ومديريها التنفيذيين يستحقون حزم التعويضات المتزايدة الضخامة التي يحصلون عليها، لا يوجد دليل يشير إلى أنهم يقومون بعمل أفضل من ذلك الذي تعودوا على القيام به في إدارة شركاتهم أو تخصيص رأس المال بقدر أكبر من الكفاءة. وعلى النقيض من ذلك، بات من الممكن بقدر كبير من الارتياح إلقاء نصيب الأسد من المسؤولية عن استمرار معاناة الاقتصاد على عاتق القطاع المالي المتضخم المختل في أميركا.

وتُعزى عملية إعادة توزيع الاستثمار هذه عادة إلى الجهود الرامية إلى تعزيز النمو، ولكن من الواضح رغم هذا أنها فاشلة، بصرف النظر عن مدى إجهاد خطوط الأساس أو محاولات لي المعايير. ومن الصعب في واقع الأمر أن ننظر إلى القرارات التي اتخذت على مدار السنوات الأربعين الماضية باعتبارها أي شيء غير فشل عميق من جانب المؤسسات العامة المسؤولة عن صياغة التقدم الاقتصادي في البلاد.

وهو تطور مثير للدهشة، فحتى عام 1980 تقريبا، كانت هذه المؤسسات عالمية الطراز بوضوح، فعلى مدى أكثر من 200 سنة، كانت حكومة الولايات المتحدة ناجحة للغاية في توسيع الفرص ورعاية النمو الاقتصادي. ومن إصرار ألكسندر هاملتون على تشجيع الصناعة والتمويل، إلى تشييد البنية الأساسية التي تغطي القارة وإدخال التعليم العام، كانت عائدات استثمارات الحكومة سخية. والواقع أن الحكومة دفعت الاقتصاد مراراً وتكراراً إلى ما كان يعتقد أنها صناعات المستقبل، الأمر الذي أفضى إلى التوسع الاقتصادي ونشوء طبقة متوسطة ضخمة وأكثر ثراء.

ولم يحدث إلا مؤخراً نسبياً أن بدأت الرهانات توضع في غير محلها، فقد فشلت السياسات على مدى السنوات الأربعين الماضية في إنتاج مجتمع أكثر ثراء؛ بل لم تنتج إلا نخبة أكثر ثراء.

وليس من المستغرب أن يختلف المنظرون الإيديولوجيون من اليسار واليمين حول ما حدث من خطأ حقاً، فكان اليسار مقنعاً إلى حد كبير في إلقاء اللوم على فكرة أن السوق الحرة على صواب دائماً وأنها لا تحتاج إلى قيود، وأن أولئك الذين تكافئهم السوق يستحقون المكافأة دائما. أما أولئك على جناح اليمين فيعزون الانحدار، على نحو أقل إقناعا، إلى بقاء وتوسع نظام الرعاية الاجتماعية (الهزيل نسبيا) في أميركا، فهم يزعمون أن البرامج مثل برنامج Medicare (الذي يقدم المساعدة الطبية لكبار السِن)، وبرنامج Medicaid (الذي يقدم المساعدة الطبية للفقراء)، وبرنامج الضمان الاجتماعي، والخصم من ضريبة الدخل المكتسب، والتأمين ضد البطالة، والتأمين ضد العجز، كانت سبباً في تحويل الولايات المتحدة إلى دولة من الآخذين وليس الصانعين.

في كتاب جديد بعنوان "اقتصاد متماسك، نهج هاملتون في التعامل مع النمو الاقتصادي والسياسات الاقتصادية"، أبين أنا والمؤلف المشارك ستيف كوهين أن المشكلة أكثر جوهرية، ذلك أن الأداء الاقتصادي الهزيل في الولايات المتحدة ليس نتيجة لأي إيديولوجية بعينها، بل هو راجع إلى السماح للمنظرين الأيديولوجيين بتوجيه السياسة العامة.

الواقع أن الغرض من أي أيديولوجية في العالم الحقيقي ليس توفير فهم واضح للأمور، بل تزويد معتنقي هذه الأيديولوجية بحس اليقين وهم يبحرون عبر دروب العالم الوعرة، ولا تصبح الأيديولوجية ناجحة باقتراح السياسات الناجحة، بل بمساعدة الناس في الشعور بالارتياح، والسعادة، واليقين إزاء ما يقومون به من عمل.

ونزعم أنا وكوهين أن هناك بديلاً أفضل للنهج الأيديولوجي، الواقعية البرغماتية. فبدلاً من البحث عن قواعد عامة أو نظرية كبرى، ينبغي لنا أن نبحث عن المسارات المحتملة النجاح، وإعداد السياسات وفقاً لذلك.

وقد أسمينا هذا النهج تيمناً بمؤسِّس الولايات المتحدة الذي لم يكن بارعاً في تعديل وصفاته السياسية وفقاً للواقع، ولكنها طريقة لاتخاذ القرار اكتسبت عدداً كبيراً من الأنصار على مر تاريخ البلاد؛ فكان رؤساء الولايات المتحدة دوايت أيزنهاور، وتيدي روزفلت، وفرانكلين روزفلت، وأبراهام لينكولن يقدمون الواقعية البراغماتية على الأيديولوجية في الأهمية.

من المؤكد أن كتاب "اقتصاد متماسك"، بوصفه مساهمة في الثقافة الشعبية، لن يكون أكثر شعبية من مسرحية الهيب هوب الموسيقية "هاملتون"، ولكن بالنسبة لصناع السياسات الساعين إلى تحويل مسار الاقتصاد الأميركي، فإننا نأمل أن يقدم لهم الكتاب بعض الإرشاد المطلوب بشدة عندما يتصدون للتحديات التي تواجه البلاد.

* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top