يتداول الناس في كل مكان، همساً وجهراً، قصص الفساد، والمشاريع "المضروبة"، وشراء أحد أقارب ذاك الوزير أو ذلك المسؤول مجمعاً تجارياً أو أرضاً أو عقاراً بملايين الدنانير داخل البلاد أو خارجها، ويشيرون إلى مسؤول ما بأنه اشترى باسم أحد أبنائه شقة في عاصمة أوروبية شهيرة بعشرات الملايين بعد أن كان مستوراً، وحالته هو وعائلته "على قد الحال"، ويختتم دائماً من يتداولون قصص الفساد والتكسب والثراء غير المشروع بحديث يائس عن عدم القدرة على مواجهة تلك الممارسات ويتساءلون: أين هيئة مكافحة الفساد؟

Ad

بالتأكيد إن نقد هيئة مكافحة الفساد وكشف الذمة المالية مباح، ولكن الحقائق والموضوعية توضح أنها هيئة جديدة مرت بظروف صعبة، وإن كانت فترة تأسيسها أخذت وقتاً طويلاً، إضافة إلى الحكم الدستوري الذي أبطلها وأعادها إلى نقطة الصفر مرة أخرى، فضلاً عن غياب بعض التشريعات التي يجب إقرارها بعد حفظ النيابة العامة قضية الإيداعات، وبصفة خاصة تنظيم وحظر تسلم أعضاء مجلس الأمة والقضاء والمناصب القيادية الهدايا والعطايا من أي جهة أو شخصية.

وكما هو معلوم، فإن عمل هيئة مكافحة الفساد لن يكون عاصماً نهائياً من الفساد والتكسب من الوظيفة والمركز القيادي بسبب غياب نظام ضريبي شامل يوضح المركز المالي للفرد بدقة سنوياً، ولكن هناك إيجابيات كبيرة لعمل الهيئة في ملاحقة تلك القضايا، والأهم أنها ستجعل الفاسدين في المناصب العليا والوسطى يبذلون جهداً أكبر لإخفاء ونقل وتبييض أموالهم غير الشرعية، وتلك الصعوبات ستجعل الفاسد يقوم بالكثير من الجهد "الورقي" لإخفاء أمواله، وإشراك مزيد من أقاربه في تلك العمليات، وهي الوسيلة التي ستجعل اقتفاء أثره ممكناً، ولو بعد حين، خاصة في هذا العصر الذي أصبحت فيه المعلومة توثق إلكترونياً في مرحلة ما من مراحلها ويصعب إتلافها كما كان سابقاً بإتلاف مستند أو حرق ملف.

وكذلك فإن قانون حماية الأموال العامة رقم 1 لسنة 1993 لا يسقط قضايا الأموال العامة بالتقادم، ويمكن ملاحقة ورثة تلك الأموال إلى ما لا نهاية، ولو بعد مئة عام، كما أن الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد (2003) ودليلها التشريعي أعطى امتيازات واسعة لملاحقة الشعوب لمسؤوليها الفاسدين حول العالم دون سقوط التهم أينما كانت أموالهم النقدية والعينية والمنقولة، وأن هناك جماعات تطوعية في أوروبا وأميركا تعمل مع أي جهة في العالم الثالث تقدم لها بيانات ومستندات عن أموال فاسدة لملاحقتها في دولهم.

لذا فإن أسلوب "التحلطم" الشعبي حول الفساد وأباطرته لن يفيد، والمطلوب، إن كنت تريد أن تلاحق الفاسد وتساعد هيئة مكافحة الفساد، فباب العمل التطوعي مفتوح لكل حقوقي وناشط لتأسيس عمل فردي أو جماعي تطوعي لجمع كل معلومة ووثيقة ومستند عن أي صفقة مشبوهة أو مشروع فاسد، لتكلف في المستقبل جهات شعبية بجانب الجهات الرسمية لملاحقة ذلك الفاسد مهما كان منصبه وموقع أمواله، وإذا كان بعضهم اليوم ربما يمتلك حصانة ما، ففي المستقبل سيغادر المنصب وسيفقدها، وكذلك فإن أبناءه وأقاربه الذين ستؤول لهم الأموال المنهوبة سيلاحقهم الشعب يوما ما لاستردادها وفقاً لما وصل لهُ المجتمع الدولي من تشريعات نافذة وسارية لهذا الغرض ومازال يطورها للقضاء على مصاصي ثروات الشعوب.