تمثيلية الاستفتاء

نشر في 11-03-2016
آخر تحديث 11-03-2016 | 12:01
في الاستفتاء عادة يحدد الناس موقفهم لأسباب لا تتعلق كثيرا بالسؤال الذي يطرح عليهم، فبعض الناس في بريطانيا يمكن أن يختاروا الخروج من الاتحاد الأوروبي فقط لأنهم لا يحبون رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذي يساند البقاء في الاتحاد الأوروبي.
 بروجيكت سنديكيت تستعر حاليا الاستفتاءات في أوروبا، ففي يونيو سيقرر الناخبون البريطانيون ما إذا كانت المملكة المتحدة ستبقى في الاتحاد الأوروبي، كما دعت الحكومة الهنغارية إلى استفتاء فيما يتعلق بقبول حصتها من اللاجئين التي حددها الاتحاد الأوروبي، لقد ذكر رئيس الوزراء الهنغاري فكتور أوربان أن هنغاريا ستقاوم السماح لهم بالدخول، وأضاف بأن "جميع الإرهابيين هم بالأساس مهاجرون"، ومن المرجح أن يفوز بهذا الاستفتاء.

ربما الاستفتاء الأغرب هو الذي سيجري في هولندا في أبريل، وذلك بعد حملة ناجحة لتقديم عريضة، والسؤال المطروح على المواطنين الهولنديين هو: ما إذا كانت هولندا ستوقع على اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا؟ فجميع الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي وافقت بالفعل على هذه الاتفاقية ولكن بدون الهولنديين لن تكون هناك إمكانية للمصادقة عليها.

قد يتصور المرء أن تفاصيل الاتفاقيات التجارية والحواجز الجمركية ستربك معظم الناخبين الهولنديين، وقد يتساءل المرء كذلك: لماذا يهتمون لدرجة إجراء استفتاء، لكن الاستفتاءات تناسب المزاج الشعبي الذي يكتسح العديد من البلدان، وذلك من أميركا دونالد ترامب إلى هنغاريا أوربان.

إن الاستفتاءات هي مثال على ما يعرف بالديمقراطية المباشرة، أي أن أصوات الجماهير لا تسمع من خلال ممثليهم المنتخبين في الحكومة، ولكن مباشرة من خلال الاستفتاء الشعبي، عندما اقترح ونستون تشرشل سنة 1945 أنه يتوجب على البريطانيين التصويت في استفتاء على الاستمرار في الحكومة الائتلافية التي شُكلت إبان الحرب، عارض زعيم حزب العمال كليمنت آتلي الاقتراح، ووصف الاستفتاءات بأنها لا تعكس التقاليد البريطانية وأنها "أداة للمستبدين والديماغوجيين".

لقد كان آتلي محقا، فعلى الرغم من أنه يتم إجراء الاستفتاءات أحيانا في الديمقراطيات التمثيلية مثلما اختار الناخبون البريطانيون البقاء في السوق الأوروبية المشتركة سنة 1975، فإن الحكام المستبدين هم عادة الأكثر حرصا على إجراء مثل تلك الاستفتاءات، فبعد أن قام هتلر بغزو النمسا سنة 1938 طلب من النمساويين من خلال استفتاء أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون أن تقوم ألمانيا بضم بلادهم، ولقد كان هذا خيارا لا يستطيعون رفضه فعليا، فالحكام المستبدون عادة ما يرغبون في أن يتم دعمهم من خلال استفتاءات لأنهم لا يدّعون أنهم يمثلون الشعب فحسب بل هم الشعب.

إن موضة الاستفتاءات هذه الأيام تعكس انعدام الثقة بالممثلين السياسيين، ففي الديمقراطيات الليبرالية نصوت عادة للرجال والنساء، حيث نتوقع منهم أن يدرسوا ويقرروا ما يتعلق بالقضايا التي ليس لدى معظم الناس الوقت أو المعرفة للتعامل معها بأنفسهم.

لا يطلب عادة من الناخبين أن يهتموا بموضوع الاتفاقيات التجارية بشكل مباشر، فالاستفتاء عادة ليس طريقة دقيقة لمعرفة القدرات العقلانية للناس أو لاختبار خبراتهم، لكنه عادة ما يتعلق بالمشاعر التلقائية التي يمكن أن يتلاعب الديماغوجيون بها بسهولة، ولهذا السبب يحبون الاستفتاءات.

الجدل في بريطانيا فيما يتعلق بخروجها من الاتحاد الأوروبي حتى الآن هو جدل عاطفي إلى حد كبير، حيث يركز على العظمة التاريخية لبريطانيا وأهوال الحكومات الاستبدادية الأجنبية، أو على العكس من ذلك يثير المخاوف بما قد يحصل لو تم التخلي عن الوضع القائم، وإن أعداداً قليلة من الناخبين البريطانيين لديهم معرفة بكيفة عمل المفوضية الأوروبية أو دور المجلس الأوروبي، ولكن معظم الناخبين لديهم بعض المشاعر عن كيفية وقوف بريطانيا لوحدها ضد هتلر أو إمكانية أن تغرق البلاد بسيل من المهاجرين.

عادة في الاستفتاء يحدد الناس موقفهم لأسباب لا تتعلق كثيرا بالسؤال الذي يطرح عليهم، فبعض الناس في بريطانيا يمكن أن يختاروا الخروج من الاتحاد الأوروبي فقط لأنهم لا يحبون رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الذي يساند البقاء في الاتحاد الأوروبي، وقد صوّت الناخبون في هولندا وفرنسا ضد دستور الاتحاد الأوروبي المقترح سنة 2005 وربما أعداد قليلة جدا تمكنت من قراءة الدستور، وفي واقع الأمر كان ذلك الدستور عبارة عن وثيقة غير قابلة للقراءة، علما أن التصويت بـ"لا" كان نابعا من عدم الرضا العام عن النخب السياسية المرتبطة ببروكسل.

لقد كان ذلك مفهوما إلى حد ما ومبررا، فمفاوضات الاتحاد الأوروبي معقدة وغامضة بالنسبة إلى معظم الناس ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بعيدة عن الناس، وعليه لم يكن من المفاجئ أن يشعر العديد من المواطنين أنهم فقدوا السيطرة على شؤونهم السياسية، فالحكومات الوطنية الديمقراطية تبدو أكثر عجزا بشكل متزايد، والاتحاد الأوروبي ليس بديمقراطية، فالرغبة في الاستفتاءات ليست إشارة إلى الخلافات الوطنية الداخلية فقط بل هي عارض آخر على المطالبات الشعبية العالمية "باستعادة بلادنا".

قد يكون ذلك في معظمه من ضروب الوهم (سوف تقل قدرة بريطانيا على التحكم في مصيرها خارج الاتحاد الأوروبي مقارنة ببقائها ضمن ذلك الاتحاد)، ولكن هناك حاجة للتعامل بشكل جدي مع أزمة الثقة، فعادة ما تكون الاستفتاءات من الأعمال العبثية، لكن نتائجها ليست كذلك، فالذي حصل في أوكرانيا مهم وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يكون له نتائج مدمرة، ليس على بريطانيا فقط ولكن على بقية أوروبا كذلك، وإن نجاح المثال الهنغاري في رفض التعاون من أجل حل أزمة اللاجئين يمكن أن يستفز بلداناً أخرى على أن تحذو حذوها.

المشكلة الأساسية هي أن أعدادا كبيرة من الناس يشعرون أنهم غير ممثلين، فالسياسة الحزبية القديمة التي تتحكم فيها النخب القديمة والتي تستخدم شبكات النفوذ التقليدية لم تعد تعطي المواطنين الشعور بالمشاركة في الديمقراطية. إن النفوذ الاستثنائي لمجموعة صغيرة من أصحاب المليارات في الولايات المتحدة الأميركية وانعدام الشفافية في سياسة الاتحاد الأوروبي تضاعف هذه المشكلة.

فالديمقراطية المباشرة لن تعيد ثقة الناس بممثليهم السياسيين، ولكن لو لم يتم استعادة درجة أكبر من الثقة فإن السلطة ستذهب لقادة يدّعون أنهم يمثلون صوت الجماهير وعادة هذه إشارة لا تبشر بالخير.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في كلية بارد، ومؤلف كتاب "العام صِفر: تاريخ من 1945".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top