حدث مرة عند شاطئ البدع والبحر كان جزراً أن غرست أصبعي في طين الساحل فعلقت به رائحة حمامات البلدية (دورات مياه عامة)، كنت أحاول محاكاة الراوي عند مارسل بروست بالزمن المفقود، حين أذاب قطعة الحلوى بالقهوة، فشده عبقها لذكريات زمن الطفولة الجميل، أما في حالتي فقد قذفت بي رائحة المجاري المتوغلة في طين الشاطئ لا لذكريات الحنين لشاطئ بحر "الدمنه" (اسم السالمية قديماً)، كما أتذكرها بطفولتي، وإنما لنتن فساد ضرب أعماق الدولة.

Ad

نشر بيان الهيئة العامة للبيئة بهذه الجريدة قبل يومين لم يحدث الأثر المفترض عند القراء، البيان يتحدث عن البراز وغيره من مخلفات إنسانية تقذف بها مجارير وزارة الأشغال بالبحر، وبطبيعة الحال تسربت للأسماك التي تستهلك. نشر الخبر، كما أرجح، مر مرور الكرام على وعي الناس، فلم تثر أسئلة عن مسؤولين رسميين لهذه الجريمة وغيرها من جرائم بحق البيئة وبحق الإنسان الذي يحيا بها، ولماذا لم تقدم كلمة اعتذار رسمية للدكتور حمد المطر الذي كتب عن تلوث الأسماك بالكويت فتم تقديمه للمحاكمة عندها... وهكذا يكون الجزاء عادة بدول سنمار.

وأعرف أن معظم المجارير التي تصب في بحرنا شيدت منذ زمن كان هناك فيه بتلك الوزارة (الأشغال) مسؤول (أو مسؤولين) كبير غير قابل للمحاسبة بوطن "هذا ولدنا"، وحدثت قضايا كبيرة متفرعة عن تقاليد محسوبيات وتفصيل المناقصات على مقاس جلباب هذا "ولدنا"، ولكن "ولدنا" جبل لا تهزه الريح، فلم تقدم قضايا ضده للمحاكم وإذا حدث، خطأ وبفعل ضغط إعلامي، أن قدمت في قضايا مشابهة لفساد المجارير ضد مسؤولين آخرين، لم يكن يرافق تلك القضايا "أدلة" تثبت الإدانة، أو كانت التشريعات غير كافية، أو لألف سبب آخر، كما تروج أدبيات الاستقامة السياسية للخطاب الحكومي المعتاد، وكانت تطوى تلك القضايا، وتصبح حكايات يتم مضغها بجلسات الدواوين لا أكثر، وننتهي بشعار رسمي كبير بعنوان "إذا عندكم دليل على الفساد فباب المحاكم مفتوح"، وتوته توته خلصت الحدوته، ويبقى ولدنا "الجبل" في مكانه كي يبلع المزيد من العمولات في وطن الفاسد المناسب في المكان المناسب.

ليست هي مجارير محطة مشرف أو الغزالي فقط التي تقذف ببقايا نفايات أمعاء كروش الفساد في بحرنا الذي غنى له يوماً فنانو الزمن الجميل، وإنما هي مجارير "ولدنا" وما أكثر "أولادنا" المتربعين فوق مجاري الفساد وغياب حكم القانون بطول وعرض الدولة "ببرها وبحرها"، ولا عزاء "لشواطي" السالمية حين أهدى لها بزمن قديم الفنان عثمان السيد التحية، ويا خسارة... !