كتب السياب قصيدة "في الليل" في مستشفاه اللندني، في الشهر الثاني من عام 1963. القصيدة تتوزع على مقدمة، ومشهدين، وخاتمة. ولذلك، وبالرغم من أنها تعتمد الصورة البصرية، إلا أنني أتابعها كما لو كنت أتابع عملاً موسيقياً. المقدمة تكتفي، شأن العمل الموسيقي، بتنبيه المشاهد المستمع على المشهد الواقعي:

Ad

الغرفةُ موصدةُ البابِ

والصمت عميقْ

ومع مفردة "رُبّ"، التي تفتح أفقاً للاحتمال، يبدأ المشهد الثاني. وهو مشهد يشكل الاحتمالُ جانبَه الخيالي غير المرئي. يتم على هيئة توقع، يصدر عن صوت المتحدث في القصيدة في جزء منه، والذي يبدأ مع "رُبّ". ثم على هيئةِ همسٍ يصدر عن الثياب المعلقة: طريقٌ خلف الشباك يتنصّتُ ويترصّد، ثيابٌ سود تتنفسُ وتحسُّ بفعل هيمنة الصمت المطلقة. في حين يشكل الواقع الحقيقي جانبَه المرئي، المحسوس: ستائر، شبّاك، ثياب معلقة، باب موصد:

ستائرُ شباكي مُرخاةٌ ... رُبّ طريقْ

يتنصّتُ لي، يترصّد بي خلف الشباك، وأثوابي

كمفزّع بستان، سودُ

أعطاها البابُ الموصودُ

نفَساً، ذرّ بها حسّاً، فتكاد تُفيقْ

من ذاك الموت، وتهمسُ بي، والصمتُ عميقْ:

"لمْ يبقَ صديقْ

ليزورك في الليلِ الكابي

والغرفةُ موصدةُ البابِ

هذا الصمت الموحش، الذي عادة ما يشعر به مريض المستشفى في الليل، هو المعزول في غرفة خاصة، فتقَ ذهنَ السياب عن هذه الثنائية: الواقع وما وراء الواقع. وكأن عالمَ الموتى السحري، الذي طالما سعى السيابُ إلى خلقه، ينبعثُ حياً هنا، في دراما بالغة الحيوية. بعدها، في المشهد الثاني، يدخل المتحدثُ مرحلةَ الفعل. ينتفضُ ويلبسُ ثيابه، ويسري (من السُرى الليلي، لا من السير على قدمين)، لأن الفعلَ يتم في الوهم، في الجانب اللامرئي من الحياة. هنا تُصبح الحركةُ الموسيقيةُ أكثرَ حيويةً، حتى لتبدو راقصةً، لأن السياب يُسارعُ إلى المقبرةٍ للقاء أمه:

ولبستُ ثيابي في الوهمِ

وسريتُ: ستلقاني أُمي

في تلك المقبرةِ الثكْلى،

ستقول: "أتقتحمُ الليلا

من دون رفيقْ؟

جوعان؟ أتأكل من زادي:

خرّوبَ المقبرةِ الصادي؟

والماءُ ستنهله نهلا

من صدرِ الأرضِ. ألا ترمي

أثوابك؟ والبسْ من كفني،

لم يبْلَ على مرِّ الزمنِ؛

عزريل الحائكُ، إذْ يبلى،

يرفوه، تعالَ ونمْ عندي:

أعددتُ فراشاً في لحدي

لك يا أغلى من أشواقي

للشمسِ، لأمواه النهرِ

كسْلى تجري،

لهتافِ الديك إذا دوّى في الآفاقِ

في يوم الحشرِ"

أيةُ مسرّةٍ راقصة، ولكن سوداء! يشعرُ السياب أن المشهدَ قد بلغ ذروتَه، بعد هذا التصاعد الحيوي. وهنا يحتاج أن يعود باللحن إلى مستقرّه، فيكرر مطلع هذا المشهد الثاني، ولكن بصوت هادئ خفيض هذه المرة:

سآخذُ دربي في الوهمِ

وأسير ستلقاني أمي.