مع من تصفّ؟

Ad

سؤال وجهه إليّ صديق عزيز يتابع مقالاتي، ويعلّق عليها أحيانا مادحاً، وفي أغلب الأحيان ناقداً، والنقد يسعدني أكثر من المدح، لأنه يدفعني إلى المزيد من البحث والدراسة للموضوع الذي تناولته، وكان سؤاله عقب قراءته مقالي المنشور على هذه الصفحة في 8/ 11/ 2015 تحت عنوان "لكي لا تغيب الحقائق في جريمة حولي"، وقد وجهت بعض اللوم والعتب إلى المسؤول الذي هدد بإبعاد وترحيل كل من يثبت اشتراكه في المشاجرة، لما ينطوي عليه هذا التهديد من إخلال بحسن سير العدالة، عندما يحجم شهود الواقعة عن الإدلاء بشهاداتهم، والإبعاد مسلط على رقابهم، وهو اللوم الذي وجهته إلى إدارة الإعلام والعلاقات العامة بوزارة الداخلية لتسرعها في إصدار بيانها عن وقائع هذه الواقعة وظروفها وملابساتها، وهو البيان الذي يكاد يكون قد حمّل المسؤولية لمن قُتل سفاحاً تحت عجلات السيارة التي دهسته عمدا لعدة مرات، وذلك قبل أن تستكمل المباحث تحرياتها عن الواقعة وظروفها وملابساتها.

واستطرد الصديق العزيز بعد سؤاله قائلا: وكنت "تصفّ" مع "الداخلية" قبلها ببضعة شهور، عندما دافعت عن الاتفاقية الأمنية الخليجية، بالرغم من أنه كان هناك ما يشبه الإجماع في الشارع السياسي على رفضها، لإخلالها بحقوق الإنسان التي كفلها الدستور.

وكنت قد كتبت مقالا على هذه الصفحة في      18/ 2/ 2014 بعنوان "الاتفاقية الأمنية... تدور في فلك القوانين الكويتية النافذة... تساير الدستور ولا حاجة لموافقة مجلس الأمة"، ومقالا آخر على هذه الصفحة تحت عنوان "أي حرية انتهكتها الاتفاقية الأمنية... اللغز الذي حيرني"، رددت فيه على ما كان يروّج له بعض وسائل الإعلام من أن الاتفاقية تنتهك الحريات.

وأجبت الصديق عن سؤاله: بأنني  كنت أصفّ مع حقوق الإنسان سواء في جريمة حولي، أو في مقالي الذي دافعت فيه عن الاتفاقية الأمنية الخليجية.

حقوق الضحية من حقوق الإنسان

وعاد الصديق ليسألني، هل تفسر لي هذا اللغز، قلت له إن حقوق الإنسان أعمّ وأشمل من أن نختزلها في حقوق المتهم في الدعوى الجزائية، عندما يرتكب فعلا في حق المجتمع يجرمه ويعاقب عليه القانون، إنها لا تقتصر على توفير الضمانات للمتهم، في محاكمة منصفة وعادلة توفر له فيها ضمانات الدفاع الضرورية لإثبات براءته، في مواجهة أجهزة الأمن التي قد تسيء استخدام ما لديها من صلاحيات واسعة لحفظ الأمن، وهي الضمانات التي تكفلها الدساتير للأفراد، وتقوم منظمات حقوق الإنسان بالدفاع عنها، والكشف عن انتهاكاتها من أي سلطة وفي أي دولة، بل أصبح التدخل الإنساني الدولي لحمايتها جزءاً لا يتجزأ من القانون الدولي الإنساني العام القائم على الأعراف والاتفاقيات الدولية.

الاهتمام الدولي بحقوق الضحية

وقد اهتمت الأمم المتحدة والجمعيات العلمية الدولية بوضع الضحية وحقوقها، فنوقش الموضوع أثناء انعقاد المؤتمر السابع للأمم المتحدة للوقاية من الجريمة في ميلانو سنة 1985 الذي أوصى بالاهتمام بضحايا الإجرام ضمن نظام العدالة الجنائية، كما اقترحت بعض المراجع الجنائية وضع شرعة لحقوق الضحية على غرار شرعة حقوق الإنسان تعلن وتضمن هذه الحقوق بالوسائل القانونية والإدارية المناسبة.

وغنيٌّ عن البيان أن الاتفاقيات الثنائية أو الاتفاقيات الجماعية، الدولية والإقليمية، التي تبرم لمكافحة الإرهاب، ما هي إلا نتاج استفحال ظاهرة الإرهاب، وهي الظاهرة التي لا تعترف بحق الإنسان في الحياة، وحق الشعوب في الاستقرار والعيش في حياة آمنة لخير الإنسانية جمعاء من أجل مستقبل أفضل لكل شعوب العالم. وإن القيود التي فرضتها عصبة الأمم المتحدة ومن بعدها ميثاق الأمم المتحدة، والتي كانت تمنع الجماعة الدولية من التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، قد أصابها تطور كبير فرضته حماية حقوق الإنسان من جرائم الإرهاب التي أصبحت تروع أمن العالم كله، وتؤرق الإنسان في حاضره ومستقبله وفي مسكنه وفي صحوه ونومه، فلم يعد الإنسان آمنا على حياته من جرائم الإرهاب التي أصبحت ترتكب في كثير من بقاع العالم، خاصة أن الأمة العربية قد أصبحت الآن ضحية الإرهاب، حيث ترتكب في أراضيها وفي أقدس بقعة فيها جرائم الإرهاب، وأن علينا أن نتضافر جميعا دولا وشعوبا وجماعات لمكافحة الإرهاب وإدانته بكل صوره وفي مختلف أشكاله، وإبرام الاتفاقات الثنائية والإقليمية والدولية التي تسعى إلى مكافحة الإرهاب.

 ولا ريب أن التعاون القضائي في مجال مكافحة جرائم الإرهاب وتسليم المجرمين والإنابة القضائية هي أمور سبقت هذا التطور بزمن بعيد.

الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب

وفي سياق ما تردد على صفحات الصحف في الأيام الأخيرة من أن الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، قد عادت إلى المشهد السياسي مرة أخرى لتدرجها لجنة الأولويات على جدول أعمال المجلس، أمام توقعات بألا تكون أكثر حظاً من الاتفاقية الأمنية الخليجية في رد فعل الشارع السياسي، عاد الصديق ليسألني هل ستصفّ مع هذه الاتفاقية كذلك، قلت له بل أكرر مع حقوق الإنسان.

وربما فات صديقي العزيز موقفي في الدفاع عن الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، في مقال احتل أكثر من نصف صفحة في جريدة الأهرام في عددها الصادر في 19/ 1/ 2004 تحت عنوان "الكويت اتفاقية مكافحة الإرهاب من المنظور الدستوري".

وكنت في هذا المقال قد أشرت إلى موقف المعارضة في البرلمان الكويتي الذي كان رافضا لهذه الاتفاقية، التي تمت مناقشتها في جلسة سرية بمجلس الأمة، أحيل الموضوع بعدها إلى لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بالمجلس، حيث شرفني رئيس اللجنة النائب المحترم عبدالله الرومي إبان عملي في المجلس، بطلب دراستها من كل الجوانب الدستورية والقانونية، والتي عرضتها في مذكرة نظرتها اللجنة الموقرة في اجتماعها يوم السبت الموافق 3 يناير سنة 2004، استعرضت فيها أحكام هذه الاتفاقية من ناحية احترامها لسيادة الدولة، وتأكيدها على بسط سلطان القانون الوطني على إقليم الدولة، والتأكيد كذلك على سلطة القضاء الوطني، وما حفلت به هذه الاتفاقية من ضمانات وحماية لحقوق الأفراد وحرياتهم، وأن ما فرضته هذه الاتفاقية من التزامات على الدولة ومن تعاون مع الدول العربية الأخرى في تبادل الدراسات والبحوث لمكافحة الجرائم الإرهابية، ومن تعاون في تبادل المعلومات حول هذه الجرائم ومرتكبيها، هي التزامات أساسية يفرضها المجتمع الدولي وميثاق الأمم المتحدة على الدول، حماية للأمن الوطني وللأمن الإقليمي والأمن العالمي.

وانتهيت في هذه المذكرة إلى حقائق أساسية على رأسها أن الاتفاقية لا تمسّ من قريب أو بعيد أي حق أو مبدأ من الحقوق والمبادئ الدستورية التي قررها الدستور، وخاصة مبدأ شرعية التجريم والعقاب المنصوص عليه في المادة (32) من الدستور، فالاتفاقية لا تجرم فعلا أو تعاقب على فعل لا يجرمه أو يعاقب عليه القانون الوطني، بل تترك التجريم والعقاب لقوانين كل دولة، كما أن الاتفاقية لا تمسّ حقا من الحقوق المقررة للمتهم في ضمانات المحاكمة الجزائية المنصوص عليها في المادة (34) من الدستور.

وإن ما اشتملت عليه هذه الاتفاقية من حبس أو توقيف الشخص المطلوب تسليمه حتى يتم التسليم، إنما يتم بقرار من السلطة القضائية في الكويت وفقا لأحكام قانونها الوطني، مع احترام المبدأ الدستوري القاضي بعدم تسليم أي مواطن.