عملتُ مع منظمة الأمم المتحدة طوال الجزء الأكبر من العقود الثلاثة الماضية، فقد كنت مسؤولاً عن حقوق الإنسان في هايتي خلال تسعينيات القرن الماضي، وخدمت في يوغوسلافيا سابقاً خلال إبادة سربرنيتسا، كذلك ساهمت في تنظيم عمليات الإغاثة بعد موجة تسونامي في المحيط الهادي وزلزال هايتي، وخططت لمهمة إزالة الأسلحة الكيماوية في سورية، وقدت أخيراً مهمة مواجهة الإيبولا في غرب إفريقيا، ولا شك أنني أعزّ المبادئ التي أُنشئت الأمم المتحدة لتصونها، لذلك قررت أخيراً مغادرة هذه المنظمة.
قبل ست سنوات شغلتُ منصب مساعد الأمين العام وعملتُ في المقر الرئيس في نيويورك، ومع أنني آلف العراقيل البيروقراطية جيداً، لم أكن مستعداً لذلك الفيض المبهم من التحذيرات "الأورويلية" والمنطق "الكارولي" الذي يسيّر هذا المكان، فحتى لو سجنتَ فريقاً من العباقرة الأشرار في مختبر، ما كانوا ليتوصلوا إلى بيروقراطية معقدة على نحو يثير الجنون كهذه، بيروقراطية تتطلب مجهوداً جباراً، إلا أنها لا تؤدي في النهاية إلى النتيجة المرجوة، ويشبه هذا النظام ثقباً أسود يختفي فيه الكثير من أموال الضرائب وآمال الناس ولا يعود للظهور مجدداً.تكمن المشكلة الأولى في نظام الموظفين المتصلّب، فيجب أن تتحلى الأمم المتحدة بالقدرة على جذب أفضل مواهب العالم ونشرها. رغم ذلك يستغرق توظيف شخص نحو 213 يوماً كمعدل، أما المشكلة الثانية فتعود إلى ارتباط الكثير من القرارات بالملاءمة السياسية لا قيم الأمم المتحدة أو الوقائع على الأرض.على سبيل المثال تقبع قوات حفظ السلام غالباً في مكان ما طوال سنوات من دون أهداف واضحة أو خطط خروج، فتبقى خلال عهد حكومات عدة، فتحوّل الانتباه عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الأعمق، وتكلّف مليارات الدولارات، لقد كانت مهمة حفظ السلام الأولى التي شاركتُ فيها في كمبوديا عام 1992، وغادرنا بعد أقل من سنتين، إلا أن من النادد اليوم أن تغادر مهمة قبل مرور عشر سنوات.لكن ما يثير استيائي حقاً ما قامت به الأمم المتحدة في جمهورية إفريقيا الوسطى، فعندما استلمنا مسؤوليات حفظ السلام من الاتحاد الإفريقي في هذا البلد عام 2014 كان باستطاعتنا اختيار الجنود الذين نرغب في الاستعانة بهم، ولكن في ظل غياب المناقشات الملائمة ولأسباب سياسية سخيفة، اتُخذ القرار بأن تشمل المهمة جنوداً من جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية الكونغو، رغم التقارير التي تشير إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان اقترفها هؤلاء الجنود. ومنذ ذلك الحين شارك جنود من هذين البلدين في النمط المتواصل من الاغتصاب والإساءة (الذي يستهدف غالباً فتيات شابات) اللذين أُرسلت الأمم المتحدة لحماية الناس منهما.في عام 1988 توليتُ خلال مهمتي الأولى في الأمم المتحدة الإشراف على حقوق الإنسان في مخيمات اللاجئين الكمبودية على طول الحدود الكمبودية-التايلندية، فحققتُ في عمليات الاغتصاب والقتل التي تعرّض لها الفقراء العاجزون، ولم أتخيل يوماً أنني قد أضطر إلى التعاطي مع أعضاء من منظمتي يقترفون الجرائم عينها أو مع مسؤولين بارزين يسمحون بانتهاكات مماثلة لأسبابِ الملاءمة السخية، وهذا أسوأ بالتأكيد.خلال الفترة التي تسبق انتخاب أمين عام جديد هذه السنة، ينبغي للحكومات، وخصوصاً الدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن، أن تمعن التفكير في ماذا تريده من الأمم المتحدة، فقد تحوّلت هذه المنظمة اليوم إلى ما يشبه الآلة الكاتبة في عالم الهواتف الذكية، وإن أردنا منها أن تروّج لقضايا السلام، وحقوق الإنسان، والتنمية، والمناخ، تحتاج بالضرورة إلى قائد يكون ملتزماً حقاً بالإصلاح.يجب أن تخدم البيروقراطية المهمات لا العكس، ويلزم أن يشكّل إصلاح نظام التوظيف نقطة الانطلاق، فنحتاج إلى مجلس من خارج المنظمة ليتفحص هذا النظام ويوصي بالتغييرات الضرورية، ثانياً ينبعي تحديد سقف لكل النفقات الإدارية يبلغ نسبة مئوية ثابتة من كلفة العمليات، ثالثاً يجب نقل القرارات بشأن مخصصات الميزانية من قسم الإدارة إلى هيئة ضبط مستقلة تخضع مباشرة للأمين العام، وأخيراً نحتاج إلى تدقيق صارم في أداء كل أجزاء عمليات المقر الرئيس.يتمتع الأمين العام بان كي مون بنزاهة عالية، فضلاً عن أن الأمم المتحدة تضم عدداً كبيراً من الأشخاص الأذكياء، الشجعان، وغير الأنانيين، ولكن من المؤسف أن كثيرين آخرين يفتقرون إلى الموقف الأخلاقي والمهارات المحترفة الضرورية ليحتلوا مناصب مماثلة، لذلك نحتاج إلى أمم متحدة يقودها أناس يشكّل "القيام بالصواب" العمل الطبيعي والمتوَقع بالنسبة إليهم.* أنتوني بانبوري
مقالات
الأمم المتحدة تخفق رغم حبي لها
24-03-2016