«أوضــاع العالم 2016: عالمُ اللّامساواة}...

نشر في 25-02-2016 | 00:01
آخر تحديث 25-02-2016 | 00:01
No Image Caption
• مرآة لسياسات العالم بين الغالب والمغلوب
صدر عن مؤسّسة الفكر العربي الترجمة العربيّة لكتاب {أوضــاع العالم 2016 ... عالمُ اللّامساواة}، وذلك في إطار برنامج {حضارة واحدة} الذي أطلقته المؤسّسة منذ 2008. أشرف على الكتاب الباحثان الفرنسيّان في معهـد الدراسات السياسية في باريس، بـرتران بــادي ودومينيك فيـــدال، ونقله إلى العربية نصير مروّة.

جالت الأبحاث الثلاثون للكتاب في مختلف المجالات التي تتجلّى فيها اللّامساواة والتفاوتات القائمة في العالم، سواء على مستوى الصحّة أم التربية أم الحصول على المعارف أم التمييز القائم بين الرجال والنساء..إلخ. فتقاطعت هذه المقاربة البانورامية الأفقيّة مع أخرى عموديّة ترصد اللّامساواة سواء على مستوى القارّات (من أميركا اللّاتينية إلى أوروبا مروراً بالسـاحل الأفريقي) أم على مستوى البلدان (من المملكة المتّحـدة واللوكسـمبورغ إلى الصين مروراً بالهنـد والعـراق وإسـرائيل وجمهورية الكـونغـو الديمـقراطية)، وبالاستناد إلى دراسة حالات معمّقة.

تشكيك في الأرقام

تشكك الدراسات والأبحاث الواردة في الكتاب، لاسيّما الاقتصادية والتنموية منها، في الأرقام التي تطلقها المنظّمات الدولية للإيهام بتراجع الفقر،  ذلك أنّ الأرقام تظلّ إشكالية وتعتريها علامات الاستفهام. ويبقى الفقر المثال الأكثر كلاسيكية وتعبيراً عن الظواهر أو القضايا أو المعلومات التي يُستعصى تكميمها، أي تحويلها إلى كمٍّ يمكن حسابه أو إحصاؤه. فبحسب الباحث الفرنسي لـوران فورشـــارد في بحثه الوارد في الكتاب تحت عنوان «العمـــران المــديني في قلب عالم اللّامساواة»، تظلّ الأرقام « نتاج توفيقات وترميقات وترميمات مؤسّسية تجري بين مكاتب إحصائية وطنية وخبراء دوليّين»، محذّراً  من الأرقام والأوهـام التي يبعث عليها علم الحساب.

وفي هذا الإطار، تأكيداً على الأوهام التي تبنيها الأرقام حين تُهمل الجوانب النوعية أو الكيفية للظواهر والقضايا، رأى الباحث الاقتصادي غـايل جـيرود، مـديـر الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS، ضمن دراسة بعنوان {تشخيص الاقتصاديّين وحلولهم}، أنّ تبنّي تعريف البنك الدولي للفقر المدقع، وهو تدنّي المدخول اليومي للفرد عن 1,25 دولار (أو ما يساوي قدرة شرائية بمعايير التكافؤ التي تحدّدت في العام 2005)، يؤدّي إلى بعض عزاء، إذ هبطت نسبة البشر الذين يعيشون في فقر مدقعٍ من 44% في سنوات 1980، إلى 25% اليوم، أي أنّ تعدادهم تراجع من مليارَيْ شخص إلى مليارٍ واحد. يعني ذلك أنّ أهـداف ألفية التنمية التي كانت تطمح، بين جملة ما تطمح إليه، إلى خفض تعداد تلك الشريحة من البشرية التي تعيش تحت عتبة الفقر المدقع بنسبة النصف قبل العام 2015، قـد تحقّقت وتمّ التوصّل إليها. لكن أن يبقى 2,2 مليار شخص (أي حوالي ثلث سكّان العالم)، كانوا لا يزالون في العام 2011 يعيشون بأقلّ من دولارَيْن يومياً ـــ علماً أنّ دولارين هما عتبة الفقر العادي، أو الفقر غير المدقع ـــ، مقابل 2,59 مليار العام 1981، يعني أنّ التقدّم هذه المرّة كان، من دون أدنى شكّ، ضحلاً.

جغرافية اللامساواة

 يوضح الكتاب أنّ ثمّة لامساواة وتفاوتاً في حيازة الثروات، وفي إنتاجها.  ذلك إنّ 83,4% من الثروات المتراكمة في العالم في حيازة 8,4% من سكّان العالم، في حين أنّ 68,7% من هذه الثروات تعود إلى 8% من سكّان المعمورة. بل  تؤكد مصادر أنّ 1% من البشر يملكون حوالى نصف الثروة العالمية، وأنّ أميركا الشـمالية وأوروبـا تحوزان معاً ثلثَيْ الثروة النقدية العالمية، ما يحجّم على نحـوٍ قبلي النصيب الذي يُنسَب إلى آسيا. أما على صعيد  إنتاج الثروات، وما يحقّقه الناتج الوطني القائم للفرد محسوباً على أساس الفرد الواحد من السـكّان، فتبدو هذه التفاوتات أعظم وأشـدّ. فالفرد الواحـد من سكّان البلدان الثمانية عشر الأولى في العالم، هـو أغنى بـ 33,5% مرّة من نظيره من مواطني مجموعة البلدان الأفقر. فالقطري المتوسّط مثلاً، أغنى بمائتي (200) مرّة من نظيره مواطن جمهورية  أفريقيا الوسطى (المتوسّط الحـال)... و يأوي الشمال 16% من سكّان العالم، إلّا أنـه ينتج 70% من ثرواته.

يعتبر مؤشّر جيني Gini الذي يُسـتخدم في قياس اللّامساواة في الدخل، أنّ اللّامساواة هذه تزداد في العالم على نحـوٍ ملحوظ، فأصبح الأغنيـاء أكثر غنى، إذ يتجه منحنى التفاوتات واللّامساواة في وجهةٍ تصاعدية.

من هنا، تتّخذ اللّامساواة والتفاوتات تلاوين جغرافية، فلا تقتصر على التفاوت بين الشمال والجنوب فحسب، بل داخل الجنوب أيضاً، وذلك على حساب أفريقيا وجيوب في آسـيا الوسطى أو آسيا الجنوبية. كذلك تتغلغل هذه الفروقات والاختلافات داخل بلدان الشـمال نفسـه، عبر الهجـرات والبطالة والهشاشة، لتخلق بؤراً من البؤس تظلّ محجوبة عن الرؤية بفعل المتوسّطات والمعدّلات الإحصائية المنشورة على  خرائط المعمورة المقسـّمة بحسب البلدان. يثبت مثال فرنسا أنّ التفاوتات تتعمّق في أوروبا. إذ يؤكّد المعهـد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE) أنّه بين 2008 و2011، زاد دخل العشرة في المائة (10%) من المواطنين الأغنى في البلاد بنسبة 3,2% بعد احتساب الضريبة، في حين انخفض دخل العشرة في المائة من الشريحة الأفقر من الفرنسيّين بنسبة 4,8%... وهذا التكوّن التدريجي للفقر الكبير في البلدان الأغنى، يرسم داخل هذه البلدان حدوداً لجماعات سكّانية من المسـتبعَدين، من شأنه أن يُفضي إلى صور وأشكال جديدة من التماهي تقارب بين بعضٍ من مسـتبعَدي الشـمال ونظرائهم الجنوبيّين. ولا زالت هذه الظاهرة تتوطّد وتترسّخ بمقدار مـا  بات الخوف من الأجنبي وكراهيّته، الخوف من الإسـلام ورفض الهجـرة واطـِّـراح المهاجرين، ظواهـر مستقرّة في الحياة اليومية للمناطق المعنيّة.

الشـأن السياسي

لا شكّ في أنّ مظاهر الظلم الاجتماعي  والاقتصادي المختلفة تشكّل منظومة، وأنّها تشـهـد نمط تنميةٍ بات على وشك أن يلفظ أنفاسه. ذلك أنّ سياسات التنمية إنّمـا وُضعت في نهاية التحليل، موضع التنفيـذ خلال الستّين سنة الأخيرة، وتحت شعار تقليص الفقر وتحجيم التفاوتات ومكافحة اللّامساواة. لكن إذا كانت هذه السياسات أتاحت أحياناً تراجع الفقر في البلدان الأشــدّ  عوزاً، إلّا أنّها لم تفلح في تقليص اللّامساواة العالمية على نحـوٍ يُـذكر. والدليل واضح. ذلك أنّ الأطراف الأغنى والأكثر يُسـراً  زادت غناها وثرواتها، ووصلت إلى مستوياتٍ للمعيشة المادية لا يمكن تعميمها على الإنسانية جمعاء، لأسبابٍ بيئيّة. ثـمّ  جاءت الأزمة البيئية لتذكّر بأنّ الثروة العالمية ليست قابلة للتمدّد إلى مـا لا نهاية.

هكـذا، لا تندرج التفاوتات العالمية في إطـار الشمال- الجنوب فحسب، بل في إطـارٍ عابر للحدود، متجاوزٍ للأوطان، بالغ التعقيد. وبالتالي، التضامنات التي تتبدّى بين أغنياء الجنوب والشمال، إنمـا تُترجَم كذلك بنمـوٍّ متجانس في الاسـتهلاك، وفي أنمـاط استخدام أوقات الفراغ، وبل ربمـا في تشاكلٍ في الثقافة، وإن كان يخفّف من شـأنها عدم التفاهم الناتج عمـّا شهده الماضي- ولمّا يزل- من إذلالات، والنابع من إحباطات وخيبات، وربمـا رغبات ردّ الإساءة بمثلها أحياناً، لدى الجنوبيّين، وغطرسة وخشية من التراجعات لدى الشماليّين. هذه كلّها عناصر تناقضات جديدة تشكّل الحاضر الاعتيادي المعقّد للعلاقات الدولية اليوم.

هكذا ينتهي برتران بادي تحت عنوان {مـا هـو عالم اللّامساواة؟}، إلى أنّ نظـرية {صدام الحضارات} التي {هي خاطئة في مبـدئها ليست بعيدة عن مرآة السياسي، لأنهـا طَرحت على المسـرح الدولي أداةً للحرب يستولي عليها كلّ طرف لكيّ يعبّر باختصار عن إحباطه كمغلوب ومُسـيطَرٍ عليه، أو تبريراته الذاتية لنفسه كغالِب وكمسـيطر}.

back to top