يستوقفني، ولا أظن أن هذا يحدث معي فقط، بل يشاركني فيه كثيرون، ذلك أن البعض من مثقفينا العرب «يصر» على الاستشهاد بقول آخرين من غير العرب، وهم يعلنون عن اكتشاف حالة إنسانية، أو تفسير ظاهرة في آية قرآنية، مثلاً، ثم يتحدثون عن طبيعتها وأسرارها، مع العلم بأن هذه الظاهرة أو الحالة ثابتة لدينا منذ مئات السنين، إلا أن بعض مثقفينا يصرُّ على أننا من غير البشر القادرين على تفسير ظواهر تخصنا أو حالات نعيشها ونتآلف معها، وكأننا في حاجة لصك منهم، كي ندرك ونفهم ما نحن أدركانه وفهمناه منذ مئات السنين.

Ad

الأغرب، هو أن يعيد هؤلاء المثقفون التأكيد على بعض هذه الظواهر أو الحالات، مستغلين ضعف الذاكرة العربية في حفظ تراثها، وما صنعه الأولون، مذكرين بما في كتب الأولين من علمائنا وباحثينا الذين أسسوا قواعد المعرفة والعلم، التي انطلق منها الآخرون، بعد أن نفضوا عن عقولهم تراب الجهل والتجهيل.

ومع أنني لا أميل إلى قول: «كنا» وأقدم عليها «ها نحن، بكل ضعفها وهزالها»، إلا أنني أعترف بأن بعض مما توارثناه «وليس كله» يستحق الوقوف عليه وتطويعه، لخدمة حياتنا اليومية في زماننا المتجدد والمتسارع.

 ولا يخفى على الجميع حاجتنا الماسة إلى ما تم تفكيكه من مشاعر إنسانية وروابط اجتماعية، هي من الأركان المهمة لمجتمعاتنا العربية، التي لها خصوصية غير متماثلة مع غيرها من المجتمعات، وذلك بقوة أسلحة الحداثة، ودخول عصر التقنيات، حتى علت الأصوات التي تترحم على أيام كانت الأسرة تلتقي على مائدة طعام واحدة، وتتحاور في أمورها اليومية، بينما أصبح طغيان التقنيات هو المسيطر على أجواء البيت، ونحن نجد أن كل فرد يلوذ بجهازه الصغير، ليتواصل مع آخرين في بلاد بعيدة، في حين أن أباه وأمه بجواره، أو غير ذلك من المستجدات على الحياة الاجتماعية.

إن ما يمر بالبلاد العربية، بلا استثناء، يستحق اليقظة التامة، لما يمكن أن يأتي على ما تبقى لنا من خصوصية «ثقافية»، وسط هذه الصراعات غير المسبوقة في تطرفها واستهتارها بالقيم الإنسانية في البلد الواحد، أو بين البلاد المتجاورة.

العقلاء وحدهم الأقدر على تجاوز هذه «الأزمة» الكبيرة، والنجاة بأقل الخسائر، التي تتزايد يوما بعد يوم، بعد أن خرجت عن السيطرة في كثير من الأماكن، حتى أحرقت الأخضر واليابس، وأزهقت الآلاف من أرواح المبدعين وقضت على الأفكار والآثار الإنسانية.

حين نشخِّص حالتنا، ونضع أيدينا على نقاط الضعف فينا، ونتعرَّف على المنافذ التي يأتينا منها الخطر، ليصيب مقومات حياتنا، فإننا سنكون اختصرنا الطريق إلى بر النجاة مما يُحاك لنا، ويدبره أؤلئك الذين لا يتردد بعض مثقفينا من تتبع آثارهم وخطواتهم التي يستخفون فيها بعقولنا وقدراتنا، ويعملون على تثبيت أفكارهم، كي نبقى على التبعية، لما يصدرونه لنا، ويريدوننا ألا نتفكر ولا نمعن العقل فيها.

ليس المقصود أن ننغلق على أنفسنا نجتر ماضيا، وننسى أن الزمن في حالة حركة وتطور، بل يجب أن ندرك جيدا أن بيننا الكثير من أصحاب الهمم العالية في كل مجالات الحياة، أغلبهم وجد ترحاباً من الآخرين، حتى يبدع ويبتكر ويخترع «لهم»، ووجد البيئة الخصبة لخدمة الإنسانية، بإبداعه، ومن قبلها خدمة «البلد» الذي مده بكل مقومات الإبداع.

وهذا يتطلب احتضان مبدعينا، وعودتهم إلى الحضن الدافئ، ونحن نمتلك المادة والعقل اللذين هما من أهم شروط الإبداع والابتكار، فبدلا من أن نستشهد بعلماء الآخرين ومفكريهم، فإن مبدعينا ومفكرينا أولى، حتى يصبح «زيتنا في دقيقنا»، كما يقول المثل الشعبي، ونصبح في حال من الاتكال على ما يمنُّ به علينا الآخرون، ونضيع مبدعينا في مجالات الحياة المختلفة، وتصدق فينا الحكمة القائلة التي تشخص حالنا منذ أمد ليس بالقريب، وهي: «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر..».

* كاتب فلسطيني - كندا