في الهزيمة ومعناها

نشر في 20-03-2016
آخر تحديث 20-03-2016 | 00:00
 منصور مبارك المطيري إن أقسى أنواع الهزيمة وأكثرها اكتنازاً للمشاعر السلبية تلك التي يكون النصر فيها قريبا من يدي المرء فيتفلّت منها في اللحظات الأخيرة، ليتوج هامات خصومه، غير أن الدرس البليغ الذي تطرحه الهزيمة التي كان النصر قريبا منها، يتمثل في أن مكابدتنا ومحاولتنا للظفر بالنصر بمنأى عن الخواتيم هي ما يضفي القيمة على وضعنا الإنساني وينحت بإزميل الفضائل شخصياتنا.

ربما الوصف الأكثر دقة للزمن العربي في العقود الأخيرة أنه زمن النحر والانتحار وجنون الأفكار الإطلاقية، والعامل النظري الأول الذي مهد الطريق لذلك نزوع متأصل إلى هجر نسق التفكير العقلاني وتأسيس منظومة بديلة تعلي من شعائرية الموت وطقوس القتل المجاني، ففي الوقت الذي تضج فيه متون حياتنا وهوامشها بتمارين يومية على ذلك، ترتقي– على سبيل الإحاطة- فكرة إعادة تعريف الهزيمة والنصر بوصفها النموذج الأكثر سطوعا على اندحار العقلانية واستبدالها بالفكرة المبتذلة القائلة بتدابير ما وراء الطبيعة والقدر، والتي كان "النصر الإلهي" الطور الأحدث والأشد سقما لها.

ما لا يعرفه الطغاة على اختلاف أحجامهم أن الهزيمة جزء من إنسانية الإنسان وعمق لبشريته، ذاك أن الهزيمة حين لا يقرّ بها المهزوم ولا يعترف بإلحاقها الذل به ولا يشعر بالمأساة التي هبطت عليه من جرائها، تغدو برهانا على عطب شالم في إنسانيته. فالبشر جزء من طبائعهم الشعور بالهزيمة وما يرافقها من تراجع في العزيمة وصعود لليأس والتمزق والتضعضع واللاجدوى.

إن أقسى أنواع الهزيمة وأكثرها اكتنازاً للمشاعر السلبية تلك التي يكون النصر فيها قريبا من يدي المرء فيتفلت منها في اللحظات الأخيرة، ليتوج هامات خصومه، غير أن الدرس البليغ الذي تطرحه الهزيمة التي كان النصر قريبا منها، يتمثل في أن مكابدتنا ومحاولتنا للظفر بالنصر بمنأى عن الخواتيم هي ما يضفي القيمة على وضعنا الإنساني وينحت بإزميل الفضائل شخصياتنا.

ويعجز المستبد سواء كان حاكما أو شخصا عاديا عن تمييز النصر من الهزيمة، فالإنسان قد يحوز النصر حين يتنازل عنه لخصمه بغية تحقيق هدف أسمى. بالمعنى الذي تغدو فيه الهزيمة الخيرة– إن جاز التعبير– تلك التي يقر فيها الإنسان طوعا بأن هناك من هو أفضل منه، وبالتالي يكون حريا بالنماء والازدهار لكونه قادرا على تحقيق مصلحة عامة. والأمر عينه على المستويات الفردية المتباينة، فثمة هزائم خيرة يتأتى عنها التطور والتقدم، كتلك التي يقر فيها المرء بصواب حجة خصمه الفكري أو السياسي أو يبدي فيها قبولا وتفهما لعدالة وأحقية قضية الآخر، فيفسح له المجال.

الهزيمة هي دوما فرصة لقيادة المياه إلى طاحونة التقدم، حتى عندما يسحق المستبد من هو أفضل وأكثر أهلية منه، فعلى الرغم من توليد هذا الطراز من الهزائم- وأحيانا بمقادير لا تطاق- لمشاعر الخيبة والإخفاق فإنه يفتح مسارب أخرى للمستقبل، وهذه المسارب أو الدروس قد يغيب عنها الوضوح والحسم في حينه ولكن الصبر كفيل بعلاج ذلك. وفي هذا السياق، تكمن فائدة عظيمة وعملية من اقتراف المرء للخطأ لكونه الخطوة الأولى للوصول إلى الصواب، ويتطلب الأمر الشجاعة والحس السليم لمعرفة أن أفضل الدروس أقساها وما الهزيمة إلا أحدها، وهذا يرتقي إلى سوية اليقين بالفكرة القائلة إن الهزيمة الكبرى هي في إفساحنا حيزا لها كي تنتصر علينا.

back to top