السعي نحو بيع أملاك الدولة وخدماتها يأتي بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة الوعاء الضريبي الذي يحصل الإيرادات العامة للدولة بعد التخصيص، ففي الوقت الذي تسارع الدولة نحو التخصيص، تتلكأ في إعداد قانون ضريبة الأعمال على الشركات.
يبدو أن التوجه الحكومي نحو خصخصة الملكيات والحصص والخدمات العامة هذه المرة أكثر جدية من سابقاتها، مع تركيز برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي على اعتبار الخصخصة أحد أهم أوجه الحلول الحكومية في مواجهة عجز الميزانية والتراجع الحاد في أسعار النفط.غير أن التوجه الحكومي، على شدته وجديته، لايزال يناقش ملف الخصخصة من زاوية واحدة، وهي بيع الأصول العامة إلى القطاع الخاص، مع أن الخصخصة كممارسة أعمق بكثير من مجرد نقل ملكية من الدولة الى الشركات.فالحديث عن الخصخصة يستلزم أولا وجود هيئات ناظمة تتولى تنظيم القطاع المراد تخصيصه، بحيث تنظم التنافس بين الشركات داخل القطاع، وتضمن حقوق المستهلك وحتى العمالة، وهي المنوط بها مسؤولية ألا يسيطر مالك واحد على شركتين تعملان في القطاع نفسه، كما حدث في مشروع تخصيص شركات الوقود، أو أن يتحالف ملاك شركتين لرفع الأسعار أو الاتفاق على سوء الخدمة المقدمة للمستهلك، فضلا عن دورها كمرجع لدراسة جدية العروض والأسعار وشكاوى المستهلكين.فرص عملمشاريع الخصخصة في الكويت تركز دائما على مسألة نقل الملكية وقيمتها في ميزانية الدولة، إلا أنها لا تتحدث مثلا فرص العمل المستهدفة داخل القطاع المخصص، فعندما تنوي الدولة تخصيص وزارة كالمواصلات، فإن الحديث يجب أن يكون أولا عن شركات متنافسة في البريد والهاتف الأرضي والكيبلات الدولية وغيرها من خدمات الوزارة، مع توقعات رسمية لفرص العمل المتوقعة في هذه الشركات بعد التخصيص، وليس مجرد بيان من الوزارة يتعهد بـ «بعدم الاستغناء عن أي موظف أو هدر حقوق أو مكتسبات موظفيها في حال خصخصة قطاعاتها»، لأن هذا التعهد أصلا ينسف الغرض من الخصخصة تتبناه الدولة من جهة ضغط مصروفات الرواتب على الميزانية العامة للدولة.ضامن للاحتكاركذلك ثمة معضلة في فلسفة التخصيص الحكومية، وهي أن الدولة عندما تتخلى عن ملكيتها في القطاعات التي تمتلكها مثل شركات الاتصالات أو البنوك أو الطيران، فإنها تحتفظ بحق إصدار الرخص للشركات الجديدة في القطاع نفسه، وكأن الدولة هنا ضامن للاحتكار، فما الذي يمنع أن تقرر مجموعة من المستثمرين تأسيس بنك او شركة اتصالات او طيران أو وقود، طالما أن الدولة لم تعد مالكة له أو على الأقل تخلت عن إدارته؟، إذ إن تقييم مسألة الربح أو الخسارة ومدى قدرة السوق على استيعاب التنافس بين الشركات يجب أن يكون خاضعا للمستثمرين أنفسهم لا للدولة.شركات البورصةبيع الشركات الحكومية كالمدرجة في سوق الكويت للأوراق المالية، كما وعدت الحكومة عبر نظام الاكتتاب العام كـ «زين» و»بيتك» من ناحية، يعتبر تفريطا بحصص مربحة للمال العام تحقق سنويا عوائد بعشرات الملايين، دون أي عبء على الدولة، لأن إدارة هذه الشركات أصلا قائمة منذ سنوات طويلة للقطاع الخاص، ومن ناحية أخرى يمثل إرهاقا للبورصة، لأن طرح 24 في المئة من رأسمال «بيتك» و»زين»، بما يعادل 1.2 مليار سهم بأسعار «تفضيلية» سيكون ثقيلا على البورصة، في ظل ثبات العوامل الحالية، ولاسيما شح السيولة في ظل استحقاقات متنوعة أهمها سعي عدد من البنوك لزيادة رأسمالها تلبية لمتطلبات اتفاقية «بازل 3»، الأمر الذي قد يسبب أزمة سيولة أكبر في السوق، خصوصا أن طلبت البنوك من مساهميها تغطية أسهم جديدة بعلاوة إصدار، ليكون السوق عامي 2016 و2017 تحت ضغط رسملة البنوك، وربما يؤدي طرح أسهم وحصص الدولة الى ضغط إضافي على السوق وسيولته.الغريب في ملف التخصيص أن السعي نحو بيع املاك الدولة وخدماتها يأتي بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة الوعاء الضريبي الذي يحصل الإيرادات العامة للدولة بعد التخصيص، ففي الوقت الذي تسارع فيه نحو التخصيص تتلكأ في إعداد قانون ضريبة الأعمال على الشركات، إذ تتحدث وثيقة الاصلاح المالي الحكومية عن أن هذه الضريبة ستطبق بعد عامين من إقرار القانون، وهذا أمر مفهوم لوضع البنية التحتية للنظام الضريبي، لكنها لا تحدد موعدا لإقرار القانون، وهنا أصل الخلل، إذ يمكن أن يكون لدينا فارق ما بين تخصيص الخدمات والملكيات الحكومية وموعد تطبيق الضريبة فعليا ما بين 4 و5 سنوات، وهو أمر يجعل الخصخصة بلا عائد حقيقي للدولة.تجاوز إداريواللافت في الملف أن أول قرار فعلي من مجلس الوزراء لخصخصة الأندية الرياضية تجاوزت فيه الهيئة المتخصصة في شؤون التخصيص من الناحية الاقتصادية، وهي الجهاز الفني لبرنامج التخصيص الذي أسسته الحكومة أخيرا، ومن المفترض أن يتولى بحكم مرسوم تأسيسه رقم 202 لسنة 2015 اختصاصات إعداد الدراسات الأولية ومتابعة تنفيذ إجراءات التقييم، وإعداد نماذج العقود واعتماد وثائق ومستندات تقديم العروض المتضمنة الشروط المرجعية، واعتماد نتائج تقييم التأهيل وتقييم العروض الفنية، بل وحتى إعلان نية الحكومة في طرح المشروع من أساسه، وهي اختصاصات تم تجاوزها في ملف الرياضة، وأيضا في وثيقة الإصلاح الاقتصادي، الأمر الذي يثير شكوكا حول آليات التطبيق حتى قبل الشروع في التنفيذ الفعلي.الحديث عن الخصخصة يجب أن يكون من خلال مشروعات تصاعدية، وعبر تقديم نماذج نجاح في قطاعات ثانوية كالطيران والبورصة والسياحة والرياضة قبل الحديث عن شركات الأمن الغذائي والتربية والتعليم، فضلا عن النفط، لأن الفشل في التنفيذ سيترك آثارا تضخمية ذات أثر سيئ جدا يترتب عليها أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية أيضا.
اقتصاد
تقرير اقتصادي : الخصخصة... ليست مجرد بيع أصول بل قواعد وضوابط
31-03-2016