صُدم العالم بأسره حين بدأ بوتين فجأة نحو نهاية شهر سبتمبر عام 2015 بإرسال الطائرات والدبابات والجنود الروس إلى سورية.

Ad

في تلك الفترة، توقّع الرئيس أوباما أن يخفق التدخل الروسي، فأعلن أن "أي محاولة تقوم بها روسيا وإيران لدعم الرئيس بشار الأسد واسترضاء الشعب ستغرقهما في مستنقع ولن تنجح".

قبل أيام، وقف العالم مذهولاً مرة أخرى أمام إعلان الرئيس الروسي أنه سيسحب "الجزء الرئيس" من قواته في سورية، ولكن لا أحد يعرف حجم الوجود العسكري الروسي (الذي يتألف من نحو 4 آلاف جندي و50 طائرة حربية) الذي سيعود إلى الوطن أو الدوافع الكامنة وراء هذه الخطوة الأخيرة.

يهوى بوتين مفاجأة العالم، ولا تُعتبر هذه مهمة صعبة، عندما تكون حاكماً مستبداً لا تحتاج إلى طلب موافقة الشعب على خطواتك، فتنشط اليوم على ما يبدو الأنظمة الدكتاتورية، في حين تتراجع الديمقراطيات، ما يذكرنا بثلاثينيات القرن الماضي.

لكن أوباما يحاول في مقابلته الأخيرة مع جيفري غولدبيرغ في مجلة Atlantic أن يقلل من أهمية ما حققه بوتين في سورية وأوكرانيا، فيقول: "لا شك أن غزوه القرم أو محاولته دعم الأسد لا يجعلانه فجأة لاعباً. فلا تراه يساهم في الاجتماعات التي تُعقد هنا في صوغ الأجندة، ولا بد من الذكر في هذا الصدد أن ما من اجتماع لمجموعة الدول العشرين يساهم فيه الروس برسم الأجندة في أي من المسائل المهمة".

من الواضح أن أوباما يعتقد أن الخطوة الوحيدة المهمة ترتكز على صوغ الأجندة في التجمعات الدولية، ويعود ذلك إلى أن الرئيس، على غرار معظم قادة الدول الأوروبية، يعيش في عالم ما بعد القوة في القرن الحادي والعشرين حيث يُعتبر القانون الدولي أكثر أهمية من القوة العنيفة. في المقابل ما زال بوتين يعيش في عالم السياسة الواقعية في القرن التاسع عشر، حيث يعمل الحكام المستبدون على الترويج لمصالحهم الخاصة غير عابئين بمشاعر الدول الأخرى، فكم بالأحرى مؤسسات متعددة الجنسيات، مثل مجموعة الدول العشرين أو الأمم المتحدة؟ وفي الصدام الحاصل بين هذين العالمَين المتناقضَين، لا نملك أدنى شك حيال مَن سيفوز: فمن القرم إلى سورية، يعيد بوتين كتابة قواعد اللعبة الدولية لمصلحته.

في حالة سورية، كان لبوتين هدف مزدوج: أولاً، أراد أن يضمن بقاء الأسد، حليف روسيا القديم (الذي يشتري الأسلحة الروسية)، في السلطة، فخلال الخريف الماضي كانت قوات المعارضة تتقدّم وتهدد سلطة الأسد، إلا أن الوضع تبدّل اليوم. كان من المفترض أن يستهدف التدخل الروسي "داعش" لكن نحو 90% من الطلعات الروسية لم تستهدف معاقل هذا التنظيم، بل مجموعات الثوار الأكثر اعتدالاً التي تدعمها الولايات المتحدة، وهكذا تمكن الأسد من استعادة جزء من محافظة حلب وعزز سيطرته على الممر الشرقي الممتد من دمشق إلى البحر الأبيض المتوسط.

بالإضافة إلى ذلك، ربما فكّر بوتين في أن الوقت اليوم مناسب للحد من التزامه قبل أن ترتفع كلفة التدخل، فمن الواضح أن قراره هذا جاء بعيد إسقاط طائرة سورية من طراز ميغ-21 بصاروخ محمول أرض جو قد يكون من نوع "ستينغر" الأميركي الصنع. ولا شك أن هذا يشكّل صورة قاتمة تذكّر بوتين بحرب روسيا في أفغانستان، ولا يرغب الرئيس الروسي بالتأكيد في المخاطر بخوض صراع مكلف آخر، فضلاً عن ألا داعي لذلك.

يستطيع بوتين تحقيق أهدافه المحدودة في سورية بكلفة أقل، وإن وقع الأسد مرة أخرى في مأزق، يسهل على الرئيس الروسي إعادة إرسال المزيد من القوات الروسية، فلن يتخلى بوتين بالتأكيد عن القاعدة الجوية الروسية الجديدة في محافظة اللاذقية، فتشكّل هذه المنشأة العسكرية الروسية الثانية في الخارج، إلى جانب المنشأة البحرية الروسية القديمة قرب طرطوس على الساحل السوري.

إذا قيمنا ما قام به بوتين وفق المعايير الطبيعية، نعتبره مريعاً، فقد ساهم في دعم نظام متعطش للدم يُعتبر اليوم مسؤولاً عن قتل مئات الآلاف وتحويل الملايين إلى لاجئين، ولكن من وجهة نظر المصالح الروسية الضيقة، يكون بوتين قد حقق انقلاباً آخر وأظهر أنه لاعب ميْسر دولي أكثر مهارة من نظرائه في واشنطن.

* ماكس بوت | Max Boot