تأخذنا يمنى العيد عبر متواليتين من الكتابة حول سيرتها الذاتية وسيرة بلدها لبنان، لتفرغ جعبتها من الذكريات والسرد في مؤلَّفين: "أرق الروح" تحت مسمى سيرة، و"زمن المتاهة" تحت مسمى سيرة روائية. وكأني بها وهي الناقدة الحداثية تقع تحت قلق تحديد الجنس الأدبي لفحوى الجزأين المتتاليين، وكيف أن أحدهما "سيرة" حيث التدوين الواقعي الصرف، والآخر "سيرة روائية" بمعنى دخول المتخيّل في نسيج السرد ومزجه بوقائع الحياة وإحداثياتها. ويبدو شعورها بالارتباك إزاء تحديد الجنس الأدبي واضحاً ومشروعاً حين تشير في افتتاحية الجزء الأول قائلة: "ثمة خيانة نقع فيها حين نتذكّر. فالتذكّر لا يخلو من تخييل، والتعبير لا يخلو من ابتداع... هي خيانة ولكنها جميلة". وتقول في تقديم الجزء الثاني: "ما جدوى العالم إذا لم يكن بمقدوركِ تشكيله على نحو ما تريدينه أن يكون؟... ألا تريدينه شيئاً أكثر مما هو عليه؟".

Ad

 لعل الشعور العام الذي يخالج القارئ عبر سياحته في جُزأَي السيرة، هو الشعور بمغالبة الكاتبة لحياة متثلمة وناقصة ومليئة بالثقوب، وهي طوال رحلة التذكّر تحاول أن تستعيد محاولاتها الكادحة في رتق الثقوب وملء الفجوات مستعينة بالصبر الجميل والأحلام الممكنة. وكانت إزاء دراما الحياة المعيشة ودراما تاريخ بلدها لبنان تهرب من نفسها إلى نفسها، ومن وطأة الحدود والتقاليد إلى أفق التحقق والمعرفة، ومن الحروب والدمار إلى فسحة التسامح واستبصار ما يأتي.

 وكأي كتابة عن السيرة تأتي الذات في المقدمة، من أجل الاستنطاق والفهم والاستشراف من علو. وفي حالة "أرق الروح"، نرى الكاتبة منذ البداية تهرب من ذاتها القديمة المقدّرة لها بحكم المولد والنشأة والبيئة، نحو ذات أخرى تصوغها كما تودّ لها أن تكون وتتشكل. فتهرب من "حكمت المجذوب"، وهو اسمها الرسمي الحقيقي إلى "يمنى العيد"، وهو الاسم الأدبي الذي اختارته معبراً عن وجودها الآخر وكينونتها الجديدة المتطلعة إلى عالم يشبهها وتشبهه. وكانت بذلك تنأى شيئاً فشيئاً عن محيط "صيدا" الضيق المفعم برائحة التقاليد وسجن العائلة وركود المجتمع وقلة شأن النساء، نحو موقع آخر تكون "بيروت" فيه هي البديل المشتهى، حيث العلْم والثقافة والانفتاح، وحيث رفاق القلم والنضال والحياة التي تمور. وهناك يتبلور الحلم بالتعليم الجامعي والزواج ومسيرة الكتابة والانفتاح على أفق السفر إلى فرنسا واستكمال الدراسة العليا في باريس. ورغم هذا الانجذاب إلى بيروت فإن الأقدار كانت تنسج خيوطها للعودة إلى "صيدا" مسقط الرأس، لتشتغل يمنى العيد في مجال التدريس والتربية ردحاً من الزمن، ثم لتغادرها مرة أخرى إلى بيروت بعد إتمام مهمة التأسيس للتعليم الثانوي برؤى منفتحة وقلب جسور.

 في "زمن المتاهة" تخصص الكاتبة هذا الجزء الثاني لمأساة الحرب الأهلية اللبنانية ومعايشتها لها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي مروراً بعقد الثمانينيات، واختيارها أن تعيش يوميات الدمار والرعب والمطاردة في لبنان بدلاً من السلامة والرفاهية في حي من أحياء باريس. كانت الطائفية بأحزابها المتناحرة وبشاعاتها تنخز فيها عصباً مؤلماً، هي الكارهة للتصنيفات والطوائف والداعية دوماً إلى ولاء واحد ووطن واحد تذوب فيه الفروقات والأديان والمذاهب. ولكن أحلام يمنى العيد كانت أضيق من فسحة واقع قلما يتغيّر.

في "زمن المتاهة" هناك روايات عن القتلة وعن المقتولين بدم بارد من أصدقاء الدرب والقلم، ووصف لمواجهات وقذائف ومجازر وبيوت تتهدم وحياة دون مستوى العيش، حيث بيروت تتناهشها الميليشيات والأحزاب والانقسامات قبل الاجتياح الاسرائيلي وبعده. لقد "انهار الموقف وتراجع المنظور البطولي في سرد الحكاية وتقدم المشهد، مشهد الدمار، دمار القيم والناس والحياة. وكأن مشهد الدمار معادلٌ نقديّ لحرب سقطت في وحلها، وضاعت فيها هوية الذات والتبست". هكذا تستبصر يمنى العيد الحدث من بؤرته.

 تقول الكاتبة قرابة نهاية الجزء الثاني من سيرتها وسيرة وطنها: "أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أمارس النقد بصفته نضالاً من أجل المعرفة والتحرر". ويبدو أن هذا الطريق لم يكن مجرد مهنة أو انتماء لمؤسسة تعليمية أو ثقافية، وإنما كان مشواراً روحياً لتحرير الأنثى من ضعفها وهوانها في مجتمع ذكوري صارم، ونضالاً فكرياً لفتح نوافذ أخرى تكرّس التعددية والقبول، وكان أيضاً كدحاً جميلاً واجتهاداً في معرفة الذات والآخر.