"مذ كانت رائحة الخبز/ شهية كالورد/ كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين

Ad

 وأنا أسرّح شعري كل صباح/ وأرتدي أجمل ثيابي/ وأهرع كالعاشق في موعده الأول

 لانتظارها/ لانتظار الثورة/ التي يبست قدماي بانتظارها.

 بمجرد أن أراها/ وألمح سوطاً من سياطها/ أو رصاصة من رصاصاتها

 سأضع يدي حول فمي/ وأزغرد كالنساء المحترفات/ سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور

 وأشكو لها/ كم عذّبني الجوع وأذلني الإرهاب.

 .................

 ولكن إن لم تأتِ/ سأعضّ شراييني كالمراهق/ سأمدّ عنقي على مداه

 كشحرور في ذروة صداحه/ وأطلب من الله/ أن يبيد هذه الأمة".

 تُرى هل كانت الرحمة الإلهية أحنّ على محمد الماغوط من أمنيته الجارحة، حين اختاره الله للرحيل قبل أن يشهد "الثورة" المتخمة بالفوضى والبؤس والتشرذم؟ عشرة أعوام مضت على رحيله، وكأن رصاصة البدء كانت تنتظره ليغادر، لئلا تزداد روحه المتورمة تورماً وثقوباً.

 كم هي هشّة ونزقة أمنيات الشعراء، حين ظن الماغوط وهو في ذروة تهافته أنه سيهرع لـ"الثورة" ويشكو لها كم عذّبه الجوع وأذله الإرهاب! غير عالمٍ بجوعٍ وإرهاب آتيين سيكونان أشدّ ذلاً وترويعاً، وأن المسألة ستكون أكثر تعقيداً من مجرد "رصاصة" و"سوط" يفرقع في الهواء.

 لعلها تلك الحياة الشحيحة القاسية التي جعلت منه شاعراً. فقد كان طفلاً وفتىً ريفياً ينام بمعدة خاوية ويقتات على أعقاب السجائر ويهرب من المدرسة، ويتسكع بين أروقة الحزب القومي دون أن يقرأ مبادئه، "فيكفي أنه كان في حارة قريبة من البيت وفيه مدفأة أغرته بالدفء فدخل فيه". ورغم تجنبه لمعترك السياسة وقيود الأحزاب، إلا أنه وجد نفسه سجيناً سياسياً رغماً عنه، وكأن اقتناصه كان أشبه بصدفة أو مفارقة لا تُرتكب إلا في أشدّ بقاع العالم تخبطاً وظلاماً.

 وعلى عادة الظروف القدرية، استطاعت تجربة السجن أن تصقل موهبته وتمرده، وتجعله أكثر رهافة وحدّة، وتحصره في خانة الوحدة والاختلاف، ليكتب شعراً مغايراً لا يشبه إلا نفسه. ورغم معايشته لتجارب مجلة "شعر" ورموزها مثل أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، إلا أنه بدا مختلفاً في نثريته وبساطته ومحاكاته للحياة بدبيبها اليومي وإيقاعها وندوبها الموجعة. وكان يتقن المزج بين الذاتي والجماعي من الهموم ويطهوهما معاً في بوتقة المعاناة، وكأنه الحارس الأزلي لمخاضات الأمة وهي تتلمس سبيلها في عالم من المتغيرات السياسية والاجتماعية.

 كان ينقد بحدة وألم وسخرية مرة، تاركاً بصماته الملتهبة في أعمال مسرحية مثل "غربة" و "ضيعة تشرين" و"كاسك يا وطن"، ليس من أجل التجريب بالعامية –وهو الذي كرّس أعماله الشعرية للفصحى- وإنما لملامسة هموم الإنسان العربي والنزول إلى دَرَك أحواله وواقع معاناته، فكانت تلك الكوميديا السوداء اللاذعة.

 وهكذا يظل محمد الماغوط مهموماً بقضايا الوطن والحرية في حياته ومماته، ما دام قد ترك ما يُقرأ حتى هذه اللحظة وما تُعاد قراءته بتأمل وتفكّر في الأحوال والمتشابهات.

 من مجموعاته: "حزن في ضوء القمر" و"غرفة بملايين الجدران" و"الفرح ليس مهنتي". ومن مسرحياته: "العصفور الأحدب" و"المهرّج".

 يقول في إحدى مقطوعاته:

أظافري لا تخدش / أسناني لا تأكل / صوتي لا يسمع/ دموعي لا تنهمر

أليست هذه بطالة مقنعة؟

***

الكل يُقلع وأنا مازلت في المطار.

***

كل جراحي اعتراها القدم، وأصابها الإهمال/ لم تعد دماؤها قانية/ ولا آلامها مبرحة

ولا طعمها مستساغاً/ ولا عمقها مقنعاً

الوحدة، الحرية، اليمين، اليسار، فلسطين، العراق، العرب، العجم..

يجب إعادة جدولة همومي.