فجر يوم جديد : «باب الوداع» !
كل شيء في هذا العمل يوحي بأننا أمام فيلم غير تقليدي تؤدي الصورة فيه الدور المحوري، وربما الوحيد، في تجسيد واضح للسينما الخالصة التي لا تعرف الحوار والثرثرة، وتعتمد على التجريد، وزخم الأفكار المرئية التي تخاطب الذهن.اللغة البصرية هي قوام فيلم «باب الوداع»، الذي كتبه كريم حنفي وأخرجه، وأدار تصويره زكي عارف، الذي أظهر قدرة فائقة، وامتلك موهبة رائعة قادته إلى الحصول على جائزة الهرم الفضي لأحسن إسهام فني في الدورة السادسة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن «باب الوداع»، كما حصد جائزة أفضل تصوير في المهرجان السنوي الثاني والأربعين لجمعية الفيلم عن الفيلم نفسه الذي فاز بخمس جوائز أخرى (أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل موسيقى تصويرية، أفضل صوت وجائزة أفضل أفيش).
أنت في حضرة فيلم عصي على الحكي يُذكرك بالتحفة السينمائية الخالدة «المومياء» للرائع شادي عبد السلام، سواء على صعيد الإيقاع الرصين (مونتاج أمير أحمد) أو حالة الشجن التي تخيم على أحداثه، والموت الذي يطرح نفسه بقوة على صورته وشخوصه، أو جملته الرئيسية «أنت يا من كنت دوماً هنا، ستكون في كل مكان»، التي تُذكرك بالعبارة الأثيرة: «يا من تذهب سوف تعود.. يا من تنام سوف تصحو.. يا من تمضي سوف تبعث»، التي استعارها «شادي» من «كتاب الموتى» واستهل بها فيلم «المومياء» في حين ينفرد «باب الوداع» بطريقة السرد غير التقليدية، وتكثيفه الشديد (65 دقيقة فقط)، فالحزن على فراق الأحباب وضياع الأحلام يكاد يقتل الجدة والأم والابن، والخوف يولد من رحم الموت، الذي يعشش في أركان وفوق الجدران العتيقة للمنزل المهجور! تؤدي التفاصيل دوراً كبيراً في فيلم «باب الوداع»، فالأم (سلوى خطاب) تقص شعرها بكل ما يعكسه هذا من دلالة توحي بحزنها على فقد عزيز لديها، وإحساسها بأنها بذلك الطقس تُفرغ طاقتها السلبية، وتتخلص من همومها، وتزهد الحياة وترفض ملذاتها، وزينتها التي يمثل الشعر تاجها، بينما تلجأ الجدة (آمال عبد الهادي) إلى سماع الأغنيات القديمة، واحتساء القهوة، وقراءة الطالع، والتفتيش في ألبوم الصور وصندوق الذكريات، وإبطال عين الحسود، التي تظن أنها السبب في مآسي العائلة بينما يهطل المطر بغزارة وكأنه يمحو الماضي والذنوب!تتضافر كل العناصر (إضاءة، تصوير، تلوين، ديكور، إكسسوار، شريط صوت ومونتاج) لتصنع هذه اللوحة التشكيلية الأخاذة، ويعود راجح داود إلى تألقه المعهود، بموسيقى طازجة تختلف عن تلك التي استهلكها في أفلامه مع المخرج داود عبد السيد، وينجح المخرج كريم حنفي، بدعم كامل من مدير التصوير زكي عارف، في تكثيف الشعور بالوحدة والسجن الذي تعيش الجدة والأم والابن في أسره، سواء بتعمد تكرار صورة الطفل / الشاب (أحمد مجدي)، الذي يقف وراء النافذة، ويتطلع دائماً إلى العالم الخارجي، في نزوع واضح للحرية، وحركة الكاميرا المتأنية للغاية، والفضاء الذي يمتد في المكان، لكنه فضاء موحش ومقبض يكرس حال الشجن والحزن والصقيع الذي تسلل إلى المشاعر!فيلم خاص يلفه الحزن لكنك تحبه لأنه لا يعرف العويل والنحيب والبكائيات المعتادة، ولأنه صادق في مشاعره، دقيق في رسم تفاصيله، والجماليات التي تغلف صورته، ولم تختف عن مشهد خروج الكاميرا من المنزل القديم، ووصولها إلى المقابر لترصد الحضور الجنائزي للثكلى والأرامل، وكأنهن يعشن الحداد العام، ولم يكن اختيار تلاوة القرآن بصوت أم كلثوم والشيخة «سكينة حسن»، التي تُعد أول سيدة تسجل بصوتها مقاطع من القرآن الكريم في أسطوانات، سوى تأكيد لهذه الحالة النسوية الفريدة، التي جعلت من الفيلم تجربة خاصة قد تحتاج إلى جمهور خاص ليتلقاها ويتجاوب مع معطياتها، وإن لم تنج من الذاتية، التي عبرت عن نفسها في قيام المخرج بإهداء الفيلم «إلى حزن أمي»، وواقعيته في نقل أجواء الحزن، وكأنه عاشها لحظة بلحظة، وشاعريته في اختيار زوايا وحركة الكاميرا، والكادر الثابت، الذي يكرس الرصانة، وطاقم التمثيل الموظف بعناية، فالممثلة سلوى خطاب امتلكت الشخصية الصعبة، وجسدت مشاعر الحزن والافتقاد ولوعة الفراق باقتدار ليس غريباً عنها، ومع غياب لغة الحوار اعتمدت على لغة الجسد، والانفعالات المكتومة، وهو ما فعلته آمال عبد الهادي، التي تقف أمام الكاميرا لأول مرة، وهي تؤدي دور الجدة، وانضم إليهما الممثل الشاب أحمد مجدي، الذي يتطور أداؤه من عمل إلى آخر، ويتميز باختياراته الجريئة، وحبه للمغامرة.«باب الوداع» فتح جديد للسينما المصرية، وخطوة مهمة، لا ينبغي أن يجهضها الانصراف الجماهيري أو الفتور النقدي، بل يفترض أن تجد الدعم والتشجيع لتستمر، وتتراكم، وتخلق جمهورها – ونقادها – فهي سينما ثرية بصرياً ومتمردة في لغتها، لكنها لا تسعى لإقصاء السينما التقليدية القائمة على الحدوتة، وإنما تعني تكريس التنوع، والدعوة إلى التحرر من القوالب السائدة!