في ظل تراجع سعر البرميل الكويتي إلى نحو 20 دولارا، رغم وضع الميزانية لسعر الأساس عند 45 دولارا، بفرضية عجز إجمالي يبلغ 8.4 مليارات دينار، فإننا بحاجة إلى إجراءات عاجلة أعمق بكثير من هيكلة الدعم أو ترشيد النفقات.

Ad

بعد أن انكفأ إلى حد كبير مشروع إعادة هيكلة الدعم على السلع والخدمات، خصوصا الكهرباء والبنزين، ظهر على السطح مشروع ترشيد النفقات الحكومية، لاسيما على نفقات السفر في المهمات الرسمية، وإلغاء تخصيص السيارات، وإعداد مشروع قرار لتنظيم المؤتمرات المحلية.

ورغم أهمية مشروعي إعادة هيكلة الدعم وترشيد الإنفاق فإن التركيز عليهما كمشروعات إصلاح اقتصادي فيه قدر عال من المبالغة، لأنهما لا يشكلان أساس الإصلاح، فضلا عن أن التناقض الحكومي في السياسات العامة يجعل الحديث عن "الدعم والترشيد" أمرا مشكوكا فيه، خصوصا إذا نظرنا إلى التصاعد غير الطبيعي في فاتورة "العلاج بالخارج"، التي تناهز قيمتها 440 مليون دينار، بنمو تجاوز 123% خلال عامين، تستخدم في شراء ولاءات انتخابية وسياسية، أو إلى التوجه لسحب 6 مليارات دينار من الاحتياطي العام للدولة، لتمويل نفقات عسكرية يفترض أن تكون آخر اهتماماتنا في ظل أوضاع اقتصادية حرجة كالتي نعيشها حاليا.

إجراءات عاجلة

في ظل تراجع سعر البرميل الكويتي إلى نحو 20 دولارا، رغم وضع الميزانية لسعر الأساس عند 45 دولارا، بفرضية عجز إجمالي يبلغ 8.4 مليارات دينار، فإننا بحاجة إلى إجراءات عاجلة تتمثل على سبيل المثال في هيكلة كل المشاريع المليارية "قيمتها الإجمالية 74.3 مليار دينار"، التي تكلف الميزانية مبالغ كبيرة لإعادة طرحها مجددا بطريقة تضمن للدولة فوائد اقتصادية تتمثل في تمويل الميزانية بعوائد غير نفطية، إلى جانب توفير فرص عمل خارج إطار القطاع العام، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بدلا من طرح المناقصات العامة التي ترهق مالية الدولة وميزانيتها، خصوصا في ظل الظروف العصيبة حاليا في سوق النفط.

وللتذكير... فإن الخطة الحكومية السنوية 2015-2016 تضمنت نحو 519 مشروعاً، بتكلفة إجمالية تبلغ 45 مليار دينار، لكنها لاتزال غائبة عن حل العديد من أوجه الاختلالات الأساسية في الاقتصاد الكويتي، فالخطة التي تعتبر أولى الخطط التنفيذية السنوية للخطة الإنمائية الثانية للكويت، بعد إعلان فشل الخطة الإنمائية الأولى، يغلب عليها جانب الإنشاءات والتطوير والمقاولات، فضلاً عن المتطلبات التشريعية، مع إهمال كبير للعديد من التحديات الاقتصادية المتزامنة مع التراجع الحاد في أسعار النفط.

ضريبة وموازنة

ومن الإجراءات العاجلة أيضا ضرورة فرض ضريبة على الصفقات العقارية، تتصاعد طرديا كلما ارتفعت القيمة، وهذه الضريبة ستحقق فوائد مالية للدولة، فضلا عن كونها ستحد من المضاربات التي تضخم قيمة العقارات والأراضي السكنية، فضلا عن إعادة تسعير أملاك الدولة بقيمها الايجارية الحقيقية، وفرض ضرائب على استغلال الشريط الساحلي.

كذلك من الضرورة العمل على إصدار موازنة عامة للدولة موحدة على مدى 3 إلى 5 سنوات قادمة، يمنع فيها أي نمو في الإنفاق العام إلا بقانون، لضمان عدم التوسع في المصروفات، والوصول إلى حجم إيرادات مخطط له مسبقا.

خطة شاملة

في الحقيقة هناك أفكار كثيرة لتمويل الميزانية إلا أنها ستظل قاصرة، ولا تشكل أكثر من نقطة صغيرة في دائرة الإصلاح الاقتصادي، لأننا أمام حاجة ملحة لوجود خطة حكومية شاملة لا علاقة لها بارتفاع أسعار النفط من عدمه، يتم طرحها ومناقشتها مجتمعيا، وتركز على معالجة العديد من الاختلالات كسوق العمل أو شح الإيرادات غير النفطية أو ضعف بيئة الاستثمار أو دور الدولة في حجم الاقتصاد، فضلا عن رفع نسبة القطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي وتغيير فلسفة الإنفاق في الميزانية من الاستهلاكي إلى الاستثماري، إلى جانب استقطاب الأموال الأجنبية والمحلية، لتكون لدينا بيئة استثمار جاذبة تمكن الدولة من جباية الضريبة، فضلا عن خلق فرص العمل للشباب.

الجزر والحرير

هذا الأسبوع تم طرح مشروع تطوير الجزر الكويتية، الذي سيحقق حسب الدراسة للناتج المحلي الإجمالي 35 مليار دولار سنويا، فضلا عن  استثمارات أجنبية مباشرة تتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار سنويا، وهي أرقام ممتازة، لكن تتضاءل الثقة بجودتها عندما نستذكر أن مشروع مدينة الحرير -الذي تتحدث عنه الحكومة منذ الثمانينيات- أيضا كان سيضيف للناتج المحلي الإجمالي ما بين 70 و100 مليار دولار، ويستقطب استثمارات أجنبية بـ3 مليارات دولار سنويا!

التعاطي مع ملفات مثل الاستثمار الأجنبي وتنويع مصادر الدخل لتمويل الميزانية لا يمكن أن يتم وفقا لقاعدة شراء الوقت، وإعطاء انطباع لدى الشارع بأن "الأمور ماشية"، والأمر نفسه عندما يتم التركيز بشكل مبالغ فيه على الدعم والترشيد، وكأنهما سيسدان عجز الميزانية... فالعجز هنا يتضح في الإدارة أكثر من المال.

ترشيد وهدر

العجز المالي عنصر متكرر في اقتصادات عدد كبير من الدول، والتحدي الحقيقي في آلية التعامل معه، فالإصلاح المالي جزء من عملية إصلاح إداري واقتصادي أكبر، وهنا لابد من التساؤل عن آليات معالجة الهدر المالي في القطاع العام، لنعرف إن كانت الإيرادات المحققة من هيكلة الدعم وترشيد الإنفاق ستصب في اتجاه خدمة أهداف الاقتصاد من حيث تنمية الإيرادات غير النفطية، وتخفيف الضغط على الميزانية أم ستتسرب في اتجاه الهدر المالي وشراء الولاءات وتنمية الإنفاق العسكري؟

الغريب أن الحكومة التي تركز بشكل أساسي على هيكلة الدعم وترشيد الإنفاق لم تتحدث حتى عن المبلغ المطلوب توفيره منها... ربما كي لا يحاسبها أحد إن فشلت في مساعيها.