كان الاحتلال العراقي جريمة لا تشبهها جريمة، هدف إلى الاستيلاء على الأرض والشعب والممتلكات، وعمل من أجل ذلك على إخفاء الحقائق وإلغاء التاريخ وانهاء الشرعية وتشويه الكيان والوجود، وحاول منع كل الأصوات الحرة التي ترفض هذا التشويه المتعمد للإنسانية السوية وسلوك العالم المتحضر من الظهور، ولولا أن لدولة الكويت أيادي بيضاء وللسياسة الكويتية يداً ممدودةً إلى العالم منذ زمن، ومصالح متشابكة، ولولا أن للشعب الكويتي إرادةً وعزيمةً لا تستكينان، ولولا الموقف الدولي الذي لا يمكن إنكاره في وقوفه مع الحق، لنجحت السرقة وتمت الجريمة ونجا المجرم من العقاب.
كانت الصرخة الكويتية مدوية لم يستطع الغازي خنقها، وكان الإعلام الكويتي إحدى أدوات الصرخة ووسائلها، وقد حاول ذلك الغازي أن يجرد الإرادة الكويتية من عزيمتها لكن ذلك لم يتم، لأن العزائم كانت فوق قدرة المحتل، إذ رفض الكويتي أن يتخلى عن وطنيته وأرضه، وأبى أن يستكين للتدجين، فكان صوت الشرفاء مدوياً في الخارج والداخل طوال الأشهر السبعة العجاف، ليعود الوطن كما كان حراً والموطن كما كان عزيزاً في أرضه وبلده.حين اجتاح الجيش العراقي أرض الكويت كانت إحدى المهام الأولى له خنق الصوت الكويتي، ومنعه من الظهور لطمس معالم الدولة والشرعية وخصوصية المجتمع وتميزه واستقلاله، وقد فطن العراقيون إلى الإعلام الكويتي وأثره الذي قد يضر بمخططهم قبل قدومهم إلى الكويت محتلين.فكانت إذاعة الكويت وتلفزيونها آنذاك منارتين إعلاميتين تحظيان بمتابعة شريحة مهمة من الجماهير العربية، ومنذ الساعات الأولى لدخولهم إلى الكويت احتلوا مبنى الإذاعة والتلفزيون باعتباره صوت الشعب والحكومة الشرعية والتي، لاشك، سترفض الاحتلال.فالإذاعة لدى كل دول العالم عنصر أساسي لإثبات كيان أي دولة أو حكومة، وهي صوت الدولة لشعبها وللخارج، فالشعب يتابع أخبار الحكومة والعالم عبرها وعبر المحطات الفضائية، فكان لابد من إخماد صوتها لتثبيت الاحتلال، وحتى يفقد الشعب الأمل بعودة الوطن إلى أهله.كما أنها الأداة المؤثرة التي لو بقيت بيد الشرعية الكويتية لربما تمكنت من الإبقاء على المعنويات المرتفعة وتوجيه الجماهير إلى الجهد الموحد، مما قد يكون له الأثر الكبير في إفشال مشروع الغزاة أو بعضه، وكذلك القضاء على مزايا السرعة وعنصر المباغتة التي راهن عليها حتى اللحظات الأخيرة، لاسيما حين أبلغوا كل الوسطاء الدوليين بأن العراق لن يغزو الكويت.لذا فقد كان احتلالهم لمبنى الإذاعة والتلفزيون خنقا لصوت الكويت كدولة ووسيلة لطمس الهوية الكويتية في سبيل تكريس الاحتلال إلى الأبد، فقصف الجيش العراقي في الساعة السادسة والنصف بالمدفعية والمروحيات الدور الثالث عشر من مبنى الإذاعة والتلفزيون الكويتي لتدمير المرسلات الإذاعية الموجودة هناك.وكانت المرسلات هي التي توصل البث إلى محطات الإرسال في جزيرة فيلكا وبعض المحطات الأخرى، وكان المذيع محمود صقر أول من أذاع خبر الاجتياح العراقي لأرض الكويت في نشرة أخبار السادسة صباحاً من يوم الخميس الموافق للثاني من أغسطس من 1990 قبل أن تتوقف الإذاعة الرسمية عن العمل نهائياً.إذاعة الجيوانعلى الرغم من مباغتة الجيش العراقي للأراضي الكويتية التي لم تكن بحسبان القائمين على الإعلام الكويتي الرسمي، فإن المفاجأة كانت بسرعة نهوضهم من دهشتهم، وسرعة إيجاد أقصر طريقة لإعادة صوت "هنا الكويت" إلى أسماع الكويتيين من جديد؛ لعلمهم بأهمية ما تعنيه هاتان الكلمتان من قيمة، وما تحدثانه من أثر.كان الإعلاميون بمستوى المسؤولية وبحجم الحدث، فانتقل البث الإذاعي من مبنى وزارة الإعلام إلى معسكر الجيوان تعويضا عن انقطاع البث الإذاعي الرسمي، ومن "الجيوان" انطلق صوت المذيع فريح العنزي معلنا "هنا الكويت" من جديد لتمزيق الصمت الإعلامي، ولترديد اسم الكويت باستمرار عبر الأثير، وحتى يشعر الكويتيون بأن الدولة باقية وإن سقطت مؤسساتها بيد الغزاة.لكن الموقع العسكري الحيوي الذي بدأت الإذاعة بثها منه لم يكن إلا مقراً مؤقتاً سيقع بيد المحتل إن عاجلا أو آجلا لقربه من متناول القوات العراقية، ولأن مركز قيادة الجيش الكويتي تقع هناك، وستكون أهم الأهداف الحيوية والمهمة للغازي يجب للسيطرة عليه.واستمر البث الإذاعي من الجيوان حتى الساعة التاسعة والنصف، حيث بدأت القوات الغازية تقتحم أجزاء من الموقع بعد أن طوقته من معظم الجهات.استوديو الدسمةفي هذه الأثناء كان الفنيون الكويتيون يعملون على تجهيز استوديو بديل لموقع الجيوان، فبدأ الفريق الإعلامي يتجمع فردا فردا من جديد في "استوديو الدسمة"، الذي تابع الاتصالات بالمذيعين والفنيين ليؤكد بسرية تامة للتوجه إلى المقر الجديد.وكان حينها المشرف العام على إعادة البث الإذاعي من جديد وكيل وزارة الإعلام المساعد لشؤون الإذاعة والتلفزيون د. عبدالعزيز المنصور، الذي اتصل بفريق العمل الذي وقع عليه الاختيار سريعاً للتجمع في "الاستوديو"، وكان المذيع يوسف مصطفى أول الواصلين إلى الموقع الذي كان موحشاً، إذ لم يصل إليه أحد بعد، ثم وصل المخرج منصور المنصور والمذيعة سلوى حسين، ثم المهندس عبدالحميد خاجة، واثنان من الفنيين العرب كانا يعملان في مبنى الإذاعة والتلفزيون قبل الغزو العراقي.وبدأ فريق الفنيين يستعين بسيارة البث الإذاعي التي أخرجت من مبنى الإذاعة والتلفزيون قبل ليلة الغزو وأوقفت في الدسمة بأمر من وزير الإعلام في ذلك الوقت الشيخ جابر مبارك الحمد، كإجراء احترازي بسبب توتر العلاقات بين الكويت وحكومة صدام، ولأن قواتهم العسكرية كانت ترابط بأعداد كبيرة قرب الحدود الكويتية، ولخطورة الوضع في اليومين اللذين سبقا الغزو.وخلال ساعات قليلة من العمل الدؤوب هُيئ الاستوديو ليكون إذاعة مؤقتة، وبدأ البث الإذاعي والإرسال ينطلق بموجة بث أقوى من إذاعة الجيوان، ثم رُبط الاستوديو الإذاعي بالموجة التلفزيونية في الساعة الحادية عشرة، فشاهد الكويتيون المذيعين يوسف مصطفى وسلوى حسين صوتا وصورة.وكانت أهم الأخبار التي بثها فريق العمل الجديد هي سلامة سمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد، وسمو ولي العهد الشيخ سعد العبدالله، طيب الله ثراهما، ومغادرتهما الكويت باتجاه الأراضي السعودية، وتسجيل عبر الهاتف لسمو ولي العهد أعيد بثه مرات عديدة يشجع فيه الكويتيين على الصمود. وقد التحق المذيع علي حسن بفريق العمل، واستمر الإرسال طوال يوم الخميس الأسود، ولم يتوقف إلا في الثانية عشرة ليلا لالتقاط الأنفاس والاستراحة من عناء يوم شاق، ثم بدأت المحطة الجديدة بالبث من جديد صباح يوم الجمعة حتى الظهر حيث انقطع الإرسال، بعد أن وقعت مرسلات فيلكا التي كانت الإذاعة تبث عبرها في يد الاحتلال، وبعد أن أصبح أمر الإذاعة الجديدة عرضة للكشف من خلال إمكانية تحديد مكان التواصل مع المرسلات بسهولة، أصبح لزاما على فريق الإذاعة إخلاء المكان والمغادرة سريعا.مغامرة عبر الصحراءتنقل الفريق الإذاعي من الدسمة إلى منطقة صباح السالم، ثم إلى منطقة سلوى، ثم إلى صباح السالم مرة أخرى محاولا إعادة البث من جديد، بعد أن التحق به مجموعة من المذيعين والفنيين، مثل نادية صقر وعبدالعزيز، وحسين المنصور، ومحمود صقر وآخرين.وبعد أن قام المهندس عبدالحميد خاجة بالاستيلاء على جهاز البث الموجود في مسجد الدولة الكبير، والذي كان يستخدم لنقل صلاة الجمعة تلفزيونيا لسنوات، لاستخدامه في البث جاءت الأوامر الرسمية للفريق الاذاعي بالانتقال إلى المملكة العربية السعودية، بعد أن تم الاتفاق مع السلطات السعودية على تجهيز الإذاعة الجديدة للبث من هناك.وغادر الفريق أرض الكويت فجر يوم الثلاثاء إلى منطقة الخفجي الحدودية التي وصلها بسلام من خلال مغامرة برية قاد فيها السيارتين اللتين قامتا بتهريب ستة من الفريق رجلان شجاعان خبيران بالقيادة ودروب الصحراء هما وليد الفليج وحامد الفجي.إذاعة الكويت من الخفجيوحين وصل الفريق الإذاعي المذكور إلى الخفجي وجد الإذاعة الجديدة قد جهزت للعمل، وكان المذيع محمد القحطاني سبقهم إلى هناك، وانطلق صوت الكويت من الأراضي السعودية فبدأت الإذاعة الكويتية في الخفجي تبث إرسالها من موقع صغير كان في الأساس مركزا لتقوية بث الإذاعة السعودية.كانت البداية في يوم الخميس صباحا بعد ثمانية أيام من الغزو، وكانت معظم المواد المذاعة عبارة عن بيانات وأخبار عن المقاومة الكويتية الباسلة التي كانت تتصدى للقوات الصدامية المحتلة وبعض الأغاني الوطنية التي استطاع الفريق الإذاعي الذي غادر الكويت إلى الخفجي تهريبها. كانت فترة البث تبدأ منذ السابعة صباحا وتنتهي في الواحدة ليلا، وقد تقاسم المذيعون والفنيون فترات البث بمعدل ست ساعات لكل فريق، بعد أن انقسموا إلى ثلاث نوبات عمل (ورديات)، ولم يتوافر للإذاعة فاكس أو مصدر مباشر للأخبار طوال شهرين، فكان أعضاء الفريق الإذاعي يستمعون إلى الإذاعات العالمية كالـ "بي بي سي" و"مونت كارلو" وإذاعات عربية وأجنبية أخرى.وبدؤوا يختارون الأخبار منها مع بعض الأخبار الرسمية التي كانت تصلهم عبر الهاتف من الطائف، وبعض أخبار الداخل الكويتي التي كان الكويتيون الهاربون من جحيم المحتل يبلغون بها، أو تلك التي كانت المقاومة تنقلها عبر الاتصال باستخدام الأجهزة التي كانت متوافرة في الداخل، والتي كانت قيادات الداخل تستخدمها للتواصل مع حكومة الطائف، وبعض الجهات الخارجية الأخرى.رسالة تلفزيون الكويتوخلال هذه الفترة تم الاتفاق رسميا بين وزراء إعلام دول مجلس التعاون الخليجي على بث رسالة يومية باسم تلفزيون دولة الكويت، يتم تسجيلها وبثها في تلفزيون المملكة العربية السعودية في الرياض، ثم يتم إرسالها عبر الأقمار الصناعية إلى وزارات الإعلام في دول مجلس التعاون الأخرى، ليتم بثها بعد نشرة الأخبار التلفزيونية الرئيسية في كل دولة.وكانت رسالة تلفزيون الكويت موجهة بشكل رئيسي إلى الشعب الكويتي في الداخل والمرابطين في دول مجلس التعاون، وقد تعدد المذيعون الذين تناوبوا على تسجيل الرسالة، حيث بدأها المذيع علي حسن ثم فريح العنزي ويوسف مصطفى وآخرون.الإذاعة القديمة كويتيةجٌهزت الإذاعة السعودية القديمة الواقعة في الدمام لتكون مقرا جديدا لإذاعة دولة الكويت بدلا من الإذاعة المؤقتة في الخفجي، حيث كانت أفضل من محطة الخفجي بكثير من حيث الموقع والتجهيزات وقوة الإرسال وعدد العاملين فيها، حيث التحق بها إضافة إلى العاملين في إذاعة الخفجي العديد من العاملين السابقين بتلفزيون وإذاعة الكويت الرسمية قبل الغزو العراقي، الذين خرجوا من الكويت في هذه الفترة أو الذين كانوا خارجها قبل الغزو.فتجمع الإعلاميون في المقر الإذاعي الجديد، إذ التحق بفريق العمل هناك محرر الأخبار والمهندسان الإذاعيان أحمد الجزاف ونايف العتيبي، والمذيعون فاطمة القطان وبدر عبدالحميد وعامر العجمي ومفرح سعد وناصر العنزي وفريح العنزي والمخرج مرزوق المعتوق وآخرون، وبدأت المحطة الجديدة بث إرسالها من الدمام في بداية شهر نوفمبر بساعات بث أطول من ساعات البث لإذاعة الخفجي السابقة، إذ امتد الارسال إلى الثالثة صباحاً وبمعدل إحدى وعشرين ساعة بث يومية.كانت المحطة نقلة نوعية كبيرة من حيث عدد البرامج، ومواد البث المتوافرة وجودة العمل، فبثت العديد من البرامج اليومية التي تخاطب الكويتيين الصامدين في الداخل فترفع من معنوياتهم وتقوي من عزائمهم، كما تطورت آلية تلقي الإذاعة الجديدة للأخبار والأحداث ومجريات الأمور فيما يخص الكويت عن الآلية التي كانت متبعة في إذاعة الخفجي.المركز الإعلامي في القاهرةتأسس المركز الإعلامي الكويتي بالقاهرة إبان الغزو العراقي بقرار من رئيس الوزراء سمو الشيخ جابر المبارك، الذي كان وزيراً للإعلام في ذلك الوقت، وكان المركز شعلة من النشاط وقدم خدمات كبيرة للشرعية الكويتية والوطن، إذ قام بإنتاج وعمل العديد من المطبوعات والوثائق والبرامج التي أثرت نشاط الإذاعة الكويتية في الدمام.وساهمت في توفير المواد الإذاعية التي مكنت من تغطية ساعات البث اليومي الطويلة، وعرفت العالم بالظلم الذي وقع على الكويت أرضا وحكما وشعبا، ووثقت الجريمة بكل حرفية ومهنية، خصوصا مع توافر الإمكانات الإعلامية الضخمة في القاهرة.وأشرف على المركز في فترة تأسيسه الإعلامي القدير خليل إبراهيم الذي كان وفريقه على قدر المسؤولية، فكان يرسل الأشرطة والأعمال الاذاعية المنتجة في القاهرة عبر المركز إلى إذاعة الدمام من خلال الحقيبة الدبلوماسية، ولم يتوقف عمل المركز بعد تحرير دولة الكويت من الغزو الصدامي، بل حرصت الكويت على استمرار هذا المركز الذي أدى اعمالا إعلامية كبرى اثناء الغزو وبعده.* باحث كويتي... ولإعلامنا الخارجي دورنظراً إلى تخصص هذه الدراسة بنشاط الإعلام الكويتي في البلاد أيام الاحتلال، لم يتم التطرق إلى إعلامنا وإعلاميينا في الخارج الذين لهم دور لا ينكر، واقتصرت على رصد الحركة الإعلامية في الداخل، وعلاقتها مع الحكومة الشرعية، فالجميع لهم بصماتهم في هذا الشأن، ولكن ذلك يحتاج إلى توسع أكثر، والمجال لا يسمح بذلك.
أخبار الأولى
الإعلام الكويتي أيام الاحتلال (1-2)
25-02-2016