استدنتُ حياتي فأعدتها شعراً

نشر في 06-03-2016
آخر تحديث 06-03-2016 | 00:01
 فوزي كريم تلقيت دعوة من Carcanet، دار النشر التي أصدرت لي كتابين شعريين، لحضور حفل توقيع كتاب للشاعر الأميركي ستانلي موس Stanly Moss. الكتاب بعنوان "لقد حان الوقت". الشاعر والجمهور وسط بهو مكتبة "London Review of Books" العريقة، التي تقع على مقربة من المتحف البريطاني. وبينما أنا أتجه إلى مقعد في الركن، قابلني الناشر، السيد شمِت. وفي لحظة عناقنا أسقط كأسَ النبيذ من يدي على الأرض.

شظيةٌ كبيرة من الكأس طارت وحطت بمصادفة غريبة في قلب قبعة صديقي السيد هاوِل (الذي يُساهم في ترجمة قصائدي إلى الإنكليزية)، وقد أراحها قُبالتَه على الأرض. كان الحدثُ مربكاً لي. تجاوزتُ كلَّ شيء إلى المقعد. بعد قرابة دقيقتين رأيت السيد شمِت يُقبل نحوي بكأس نبيذ ممتلئة، تعويضاً عن الكأس التي اعتقد أنه أسقطها من يدي. مع أني أعرف أن العلةَ في ضعف ساعدي أنا.

 لم تبدُ على الشاعر موس السنوات التسعون. كان يجلس مورّدَ الوجه، وسيمَه، ولقد ذكّرني بالشاعر الجواهري في تسعينياته. وبدأ يقرأ. أولُ انطباع تركه لدي هو أن روحَ طفلٍ مشاكس تتلبس قصيدته. طفل لا يحب أن يرى الأشياء ترقد دون حركة وألوان. هناك حكمة في شعره، ولكنها غير مُثقلة بالرزانة، كابية، نصف مضاءة، على عادة الحكمة دائماً. حكمته مبتسمة، احتضانية، نافرة، ولا تضيق بسنوات عمرها.

 حين عدتُ إلى البيت، انصرفتُ إلى مجموعته أقرأها بشغف. فكلُّ قصيدة تؤلبُني لقراءة القصيدة التي تليها. هذا شاعر يُلقي عليك ما يُدهشك دون توقف. والإدهاشُ لا شأن له بالزخرف واللعب اللغوي، أو بالصورة الصادمة، بل بطلاقة كيان أرضي، يمس الحياة اليومية، يقبض عليها براحة كفِّه الحارة. تُغويه المغامرة الشعرية في أفق الأديان، ولكنه أبعد من أن يكون شاعراً دينياً. في قصيدة "قارئ ثري":

استدنتُ سلّةَ أعنابٍ، أعدتُها خمراً.

استدنتُ سطلَ حليب، أعدتُه أَجباناً.

استدنتُ حياتي، حاولتُ إعادتها شعراً: نسمةٌ من خريف هبت فرمت بقصائدي بعيداً

أغصاناً جافة، تمويناً لا يكفي: مَديناً مازلتُ بشأن حياتي.

الرب دائن، له متجر رهنٍ، علّقَ عليه الشمسَ والقمرَ علامة.

إنه مشغول طوال الوقت: كمَ استلمتُ من استدعاءٍ غالباً عند منتصف الليل

يطالبُني فيه بالتسديد دولاراً دولاراً، عن كلِّ سنةٍ وكلِّ دقيقة ونبضةِ قلب

عن كل قرش من حياتي ـ من موتي مضافاً إليه سعرُ فائدة: هو الخلود.

 ولد موس في مدينة نيويورك عام 1925. أصدر مجموعته الأولى "الملاك الخطأ" عام 1966. وتوالت إصداراته الشعرية: "جمجمة آدم"، "ذكاء السحب"، "تاريخ اللون"، "نوم في حديقة"، "الله لا يحطم قلوب الرجال على حد سواء".. أنشأ دار نشر للشعر غير ربحية باسم "مرعى الخراف"، ويعتمد في معاشه على الاتجار بالفن، وخاصة الفن الإسباني والإيطالي. ومسيرة حياته، على لسانه، غاية في الشطارة، والطرافة. خاصة في تطوير قدرته على الدراية بالفن، والاتجار به. هذه ترجمة حرفية لقصيدة أخرى:

إلى مرتفع التل سآخذها/ إلى جانب شجرة الزيتون.

هل يمكن أن أفعل هذا في وضح النهار؟ ولكني خائف مما سأرى.

ليس كل ما حفرتُ من القبور، على ما فيها من جفاف وسعة وعمق،

يمكن لها أن تحتضن حلاوةَ ابنتي وحلاوةً غفوتها.

لا بدّ في قريتنا من أحد يحفر قبورَ الجميع، موتُها قد بدأ تواً وهي تحتَ شال صلاتها.

مسحاتي هي صليبي والمسحاةُ لا تستطيع أن تبارك.

عليّ أن ألوِّثَ بالتراب، يا صغيرتي لباسَكِ المطرز الأبيض.

back to top