هناك ما يشبه التكرار والعود الأبدي للطغيان في المشرق العربي، وهو استئناف يأخذ شكلا بيولوجيا مثل حافظ الأسد وابنه ومذهبيا مثل صدام حسين ونوري المالكي، وهذه الديمومة والتماسك في إنتاج نسخ متتالية من الطغاة، الذين برهنت البنى الفكرية لمجتمعات المشرق على احتضانهم بكفاءة باهرة، كانت الشرط الشارط للحروب الأهلية الباردة والساخنة التي تدور رحاها في ربوعنا، فضلا عن اقتتال لا يقل عنها وساخة وابتذالاً في الفضاء الافتراضي للشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي. ويسجل للطغاة نجاحهم المرة تلو الأخرى في ممارسة خديعة أيديولوجية ماكرة تروم إعادة هندسة المجتمع، وتقوم في جوهرها على التشدق بأن الناس في المجتمع تجمعهم ثقافة واحدة، وأسلوب معين في الحياة ما يجعل اختلافهم أقرب إلى الخروج عن المألوف، وهذا على سبيل المثال ما جعل طاغية كالأسد الأب يعجب بنموذج كيم أيل سونغ وبتراتبية مجتمعية تستلهم نموذج الدمية الروسية ماتريوشكا!
وقد يقال إن للطغيان تاريخاً وجد حضنه الدافئ في تعصب مشرقي للرومانطيقية ولغة الإنشاء، وجنوح حرود في فهم العالم وتفسيره بلغة الانفعال والغرائز والهوى، ضاعفه طراز بدائي من الوصاية على عقول الناس وأفئدتهم. مع ذلك فإنه صنع ثقافة جماهيرية تنظر للقيم الجوهرية، التي من المفترض أن تدون كقوانين وأنظمة لضبط تفاعل الأفراد ومصالحهم، أن لا قيمة حقيقية لها ولا يمكن الاعتداد بها، بل قابلة للتضحية بها بخفة متى تطلب الأمر ذلك. ويلوح السؤال حول الكيفية التي يدحر فيها الطغيان كثقافة جماهيرية بوصفه الأكثر راهنية وإلحاحا، ففي الوقت الذي أثار فيه تدمير بشار الأسد مدناً سورية وأجساد أبنائها وهمجية "داعش" وبربريته شكوك العالم بانتماء المشرق العربي إلى الإنسانية، لم يبق من مسارب لهذا الجحيم سوى مدّ البصر صوب المجتمعات الحديثة، وبخاصة المتمسك منها بأهداب المدنية والحضارة، ذاك أنها بتواريخها المثقلة بالكوارث الكونية استوعبت الدرس الذي مفاده أن الطغيان والتوتاليتارية لا يستولدهما إلا مناهضة الحرية والتنوع الثقافي واختلاف أساليب الحياة، وتعدد الآراء.هزيمة الطغيان تبدأ بتحطيم الطوطم السياسي الذي شكله إزميل توتاليتاريات كالقومية والبعث والخمينية، فالأفراد في المجتمعات الحرة لا يتحلقون حول صنم ذي ملامح عابسة؛ كلّيّ المعرفة والإمكان، بقدر ما يلتئمون على قيم سياسية عريضة، ويحتفظون، في الوقت عينه، بحقهم في الاختلاف على المنابع الفلسفية والثقافية والدينية التي صدرت عنها تلك القيم، ويؤمنون في قرارة أنفسهم بأن تنوع الآراء وتباينها هما زخم كبير لرفاهية العيش وقيمة مضافة لها، ولا ينظرون إليها على أنها من نذر الخيانة أو بوادر الشقاق.التفكير الحر هو حجر الأساس للأخلاق المناهضة للطغيان وللكيفية التي يتعامل بها الأفراد مع صعوبات الحياة ومآسيها، ونقطة البدء فيها تدبر الطرائق التي تفضي إلى حياة مزدهرة تربط الفرد فيها علاقات ود مع بقية أفراد الجنس الإنساني. حين يشرع المرء بتفكير كهذا، سوف يظفر لا محالة بمستوى من فهم الذات، وبالتالي إدراك المواهب والقدرات التي تجعله قادرا على أن يعيش حياة خيرة، ويجترح خيارات مبدعة وصائبة عن نوعية القيم التي تحكم حياته ويمضي على هديها.وعلى الرغم من مصادرة نفر منا لتفسير التاريخ وتأويله، فإن حركة المجتمع الذي يعتمد التفكير الحر وتعددية الآراء والاجتهادات أكثر سلاسة من مجتمع الرأي الواحد والمصير الواحد والتاريخ الواحد، أما نقيضه ففضاء اجتماعي تعشعش فيه الفظاظة والتعصب ولغة الهوى، وحتما طغيان لا يمكن الفرار منه.
مقالات
عن الطغيان وأهوائنا
22-05-2016