بيانات الستينيين العرب (1-2)
في عام 1993 صدر عن "دفاتر كلمات"، التي تصدرها "أسرة الأدباء والكتاب" في البحرين، كتابٌ تحت عنوان "بيانات"، أسهم فيه كلٌّ من أدونيس، أمين صالح، قاسم حداد (البحرين)، محمد بنيس (المغرب)، ومحمد لطفي اليوسفي (تونس). لغة الستينيين تختلف عن لغة أدونيس برغبة لا تُقاوم في أن تذهبَ أبعدَ في الإيهام، للنفس والآخر، بعافية بكورية كفيلة بانتشال العرب، عبر الكلمة السحرية، من الوحل. عبر لغة ترغب هي الأخرى في أنْ تذهب أبعدَ في استئصال عربيتها، وإيهامِ النفس والآخر في ابتكار عربيةٍ حديثة تغذُّ السيرَ مع لغة الحداثة الغربية يداً بيد. لغةُ الستينيين العرب لا يهما التواصل مع القارئ، إن لم تكن تُنكره. "إنه كتاب يفتتح له مجرى في مدار الرفض"، يكتب الناقد اليوسفي. ولكي يتجاور مع دفء الحداثةِ الصديقة في الغرب يضعُ كلمةَ الفيلسوف الألماني نيتشة في مقدمة كلمته. ثم يعلن: "إن الدروبَ جميعها مقفلةٌ مسدودة. لا خيار هناك، ولا توسّط. إن التأصيل لا يكون إلا بالإمحاء. إمحاء النقد باعتباره سلطة تقييمٍ وتصنيف غايتُها أن تكونَ مع أو ضد... إنه يتحرك في رحاب الميتافيزيقا. في حين ظل النصُّ الحديث، منذ لحظات تشكله الأولى، يحرص على الانعتاقِ من المتافيزيقا. بل ما يميز نصوصَنا الحديثة إنما يتمثل في كون حدث الكتابة في هذه النصوص يردُ كحركة تهفو إلى هجر الميتافيزيقا والإفلات من مكرها." (ص10) صحبةُ الغرب المتكافئة ليست مُرْضية، كما يبدو، للرغبة في توكيد الهوية: "إن التغاير الثقافي يعني تأسيس خطاب يتغاير مع الآخر الغربي ومع السلف. خطاب ينجحُ في استئصال الحضور المهيمن للخطاب الغربي داخل نصوصنا وذواتنا." (ص11) هذا يتوافق مع ما يُعلنه محمد بنيس في "بيان الكتابة": "إن الوعي النقدي لا يمكن أن يكون شاملاً إلا إذا اخترقتْ به الكتابةُ متعالياتِ الغرب أيضاً، وقد تسربتْ إلى رؤيتنا وممارستنا باسم التفوق الغربي وتخلفِ الشعوب غير الغربية...".
هذه أصداء مما كتبه أدونيس في "بيان الحداثة": "ليس في المجتمع العربي حداثةٌ علمية... لكن مع ذلك، وتلك هي المفارقة، هناك حداثة شعرية عربية. وتبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن هذه الحداثة الشعرية في المجتمع العربي، تكاد أن تُضارع، في بعض وجوهها، الحداثة الشعرية الغربية. ومن الطريف أن نلاحظ، في هذا الصدد، أن حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، بينما نرى على العكس، أن حداثةَ الشعر في المجتمع العربي متقدمةٌ على الحداثة العلمية- الثورية".(ص29) يتبين أدونيس المفارقةَ بيننا وبين الغرب، ولا يتبين المفارقة فيما يكتب ويقول هو. فهو يعرف عن يقين أن الأدب العربي المعاصر يخلو تماماً من أدب الرسائل المتبادلة، ومن المذكرات، والاعترافات، والسيرة الذاتية التي تكون فيها ذات الكاتب مرئية، لا رائية. والسبب وراء ذلك أننا لا نعيش حداثة حياة بالدرجة الأولى. ولا نعيش حداثة علمية، ولا حداثة تغيرات ثورية: اقتصادية، اجتماعية وسياسية. كاتب الأدب والشعر لدينا منشغلٌ نقدياً بالآخر يراه، ويتأمله، وفق أهواء ومصالح زمنية عابرة. ولكنه لا ينشغل برؤية نقدية لذاته، يراها، ويتأملها. هناك مناعة من فعل كهذا. كاتب الأدب والشعر إذا ما انشغل بالنفس فلتضخيم الأنا المرضي وحده. لا يريد أدونيس أن يرى حقيقة أن هناك "فارقاً"، بل هوة، بيننا وبين الغرب، لا استثناء فيها بين عناصر الحياة المعرفية والابداعية. وأن "المفارقة" التي طرب لها ليست إلا ضرباً من إيهام النفس. لأن الشك بتفوق حداثة الشعر العربي التي تضاهي حداثة شعر الغرب، سيعني الشك بتفوق حداثته الشعرية هو شخصياً. حداثة "الأنا" المتضخمة، التي لا تنشأ وتنمو إلا في حياة غير متحضرة ومتطورة. خصوصاً أن أدونيس، في كل ما كتب من شعر ونثر، تبدو "الأنا" المتضخمة لديه متعالية على حداثة الشعر العربي وشعرائه أولاً، فكيف أصبح هذا الشعر العربي الحديث فجأة على هذا القدر من التطور، وأصبحت "حداثته" هذه "تكاد أن تُضارع الحداثة الشعرية الغربية".