أنسنة الخطاب الإعلامي
يحكم البيئة المجتمعية العربية 4 خطابات: خطاب تربوي تعليمي، وخطاب دعوي ديني، وخطاب سياسي، نظامي ومعارض، وخطاب إعلامي، تقليدي وجديد، أما الخطاب التعليمي فما زال في جانب كبير منه أحاديا تلقينيا، لا يحصن عقول الناشئة والشباب من أفكار الغلو والتطرف، أنتج عقلية منغلقة يسهل انزلاقها للتطرف والعنف، وخرّج جيوشاً من العاطلين يفتقدون المهارات اللازمة لسوق العمل ومشاريع التنمية. وأما الخطاب الديني، التقليدي والسلفي والصحوي السياسي، فهو خطاب تعصبي، في كثير من طروحاته، ودفاعي تبريري في سجالاته في مواجهة الآخر الديني والمذهبي، ولم يستطع تقوية مناعة مجتمعاتنا تجاه أمراض التشدد والانغلاق واللاعقلانية. وأما الخطاب السياسي الرسمي والمعارض فالسمة الغالبة عليه، إما التمجيد وإما الأدلجة، وإذا جئنا إلى الخطاب الإعلامي السائد سواء التقليدي المتمثل بالقنوات الفضائية والصحافة الورقية، أو الإعلام الجديد المتمثل بمنصات التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية، فما زال الطابع الغالب عليه أنه خطاب تعبوي، يتبنى لغة الشحن العاطفي: المذهبي الطائفي، والديني، والقومي، سواء تجاه الآخر المختلف بالداخل أو الآخر الحضاري الخارجي المتفوق، يخاطب الغرائز الأولية والنزعات الدينية والقومية في نفسية الإنسان العربي، ليقنعه ويرسخ في ذهنيته عدوانية الآخر الحضاري المتفوق، واستهدافه للأمة العربية والإسلامية، بهدف زرع الكراهية له.
ويغلب على خطابنا الإعلامي تضخيم سلبيات الغرب ضدنا، ولا يذكر شيئا من إيجابياته، كل هم إعلامنا تصيد أخطاء الغرب ضد الإسلام والمسلمين، ولكن ماذا عن إيجابياتهم ومساعداتهم وفتحهم جامعاتهم ومعاهدهم لأبناء المسلمين؟ وماذا عن احتضانهم للجاليات الإسلامية والمراكز والمساجد وانتشار الإسلام في بلادهم واعتناق الآلاف من أبنائهم للإسلام؟ وماذا عن إيوائهم للملايين من المهاجرين الفارين من بلادهم المنكوبة بالظلم والإرهاب؟ لماذا يفتقد إعلامنا معايير العدالة والإنصاف الإنساني حينما يتحدث عن الغرب؟ ولماذا لا يترجم إعلامنا التوجيه القرآني "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"؟ لماذا لا نشرح لجماهيرنا وناشئتنا وشبابنا أن أمور مجتمعاتنا وأمن دولنا واستقرارها ومصالحنا الاسترتيجية، لن تتوطد إلا بالعلاقات الجيدة مع الغرب؟لماذا التركيز دائما على تصوير أن الغرب لا همّ له إلا التآمر على العرب والمسلمين؟! ولماذا تشويه الحضارة المعاصرة بالترويج لمفردات: الكيل بمكيالين، والهيمنة الغربية، والغزو الغربي، والاستهداف، والصليبية الحاقدة، والغرب الإباحي المادي، وصدام الحضارات... إلخ. هذا الشحن الإعلامي غير المتوازن، وغير الموضوعي، وغير المتبصر لعواقبه وتداعياته، وغير التسامحي، هو من أكبر عوامل ترسيخ الكراهية، وزرع التوتر والمرارة والقلق في نفسيات شبابنا الذين يعايشون صراعات وضغوطا وآمالا محبطة داخل مجتمعاتهم، فزادهم هذا الشحن والتحريض رهقاً وبؤساً وكراهية، وحوّل بعضهم إلى قابليات سهلة الانقياد لدعوات التنظيمات الإرهابية ومشاريعها العدمية، ليصبحوا في النهاية قنابل بشرية متفجرة.لهذا، أحسن "نادي دبي للصحافة" اختيار قضية "الأنسنة" عنوانا لـ"منتدى الإعلام العربي" في دورته الخامسة عشرة لهذا العام، حيث جاء بعنوان "الإعلام.. أبعاد إنسانية"، وتم عرض أنماط من مشاهد التفاعل الإعلامي الإيجابي مع قضايا إنسانية متعددة. معنى "أنسنة الإعلام" أن يعنى بحقوق الإنسان وكرامته وقضاياه، بغض النظر عن دينه أو قوميته أو جنسه، ومعناه أن يركز على ما يجمع البشر لا ما يفرقهم، وعلى ما يرسخ القواسم الإنسانية الإيجابية المشتركة بين الأديان والمذاهب والمعتقدات والشعوب، والانفتاح على ثقافات الإنسان المختلفة وإضاءة الأوجه الإيجابية النافعة للشراكة بين الشعوب والمجتمعات. ومعناه نشر ثقافة التسامح والمحبة ونبذ التعصبات والطائفية وفكر الكراهية والإقصاء، ومعناه إعلاء حقوق الإنسان واحترام التعددية الدينية والمذهبية والسياسية والثقافية، ومعناه الدفاع عن المظلومين والمضطهدين والمهمشين واحتضان الإنسان لأنه إنسان مكرم من قبل خالقه تعالى. على الإعلامي أن يكون إنسانا، قبل كل شيء، أي ينحاز للإنسان وكرامته، ويزرع الأمل وينشر التسامح ويوقد الإيجابية في نفوس الشباب، حماية لهم من فكر التطرف.ختاماً: على إعلامنا أن يقدم خطابا متصالحا مع العالم، وقد قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: لا إنسان بدون إعلام، ولا إعلام بدون إنسانية. * كاتب قطري