يشتبك الشاعر محمود قرني في كتابه «وجوه في أزمنة الخوف» مع الاستشراق والتشكك في وجود الفكر العربي بالأساس، باعتباره يقتات على مخلفات عصر النهضة في تجلياته الغربية، وباعتباره أيضاً مردوداً استشراقياً لم ينجح في التعبير عن القطاعات العريضة من المتعلمين، فضلاً عن الحشود الكبرى من العامة.

ورغم أن جانباً من تلك التصورات لم يكن بعيداً عن الحقيقة، فإن ذلك لم يحل دون تشكّل التكوينات الفكرية المحلية، التي استطاعت أن تقيم تمايزات مقبولة في العلاقة مع الآخر.

Ad

فلا يمكننا مثلاً التحدّث عن الوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود، باعتبارها إعادة إنتاج لفرانسيس بيكون، أو جون ستيوارت ميل، أو مدرسة فيينا جملة.

قدّم محمود قرني قراءة مدهشة لموقفه من التراث، واستطاع عبر المنهج نفسه، تفتيت مفهوم جماعات واسعة من الأصوليين الذين ما زالوا حتى الآن يدفعون باتجاه العودة إلى الماضي سواء عبر استغلال الفجوات العقلية أو عبر القتل والترويع، ولا شك في أن هذه الآراء أثمرت مجتمعاً لا يمكن رده إلى الجاهلية المطلقة.

فرغم كل شيء ، نحن أمام مجتمع اخترقت حصونه مفاهيم عدة حول نبذ الحكم العشائري وتصاعد الأبنية العقلية جملةً، واحتلالها مركز الصدارة في لحظة من اللحظات. وعموماً، تصاعدت قيمة العلم في بناء مؤسسات ذات طابع علماني محض، غير أن تأمل تلك التصورات في مواجهة نظم الحكم سيدهشنا بالنتائج التي نراها على الأرض.

وهذا الانفصال بين البناءات العقلية المتقدمة والأداء النكوصي، لا يمكن فهمه من دون تحليل الواقعين السياسي والمجتمعي، عبر اختراق طبقات الحكم. ويقصد قرني بهذا الاتجاه تحليل دور المال والسلطة في مواجهة الأدوات الناعمة للتعبير العقلي، ليكشف صراعاً يبدو فريضة من فرائض من تبعية أنتجها النموذج الاستشراقي سياسياً واجتماعياً.

ويقدم قرني وجوهاً عدة تمثّل واحدة من التعبيرات المتقدمة عن تلك الحالة بمدلولها الإيجابي على مستوى منجزها العقلي أمثال: إدوارد سعيد، سلامة موسي، أحمد لطفي السيد، نوال السعداوي وغيرهم، أو على مستوى المنجز الإبداعي مثل: نجيب محفوظ، محمود درويش، عبد الرحمن الأبنودي، عفيفي مطر وغيرهم.

ولاعتقاد قرني الراسخ بأن الأمور تعرف بنقائضها، لذلك لم ير تناقضاً بين وجود أسماء أسست لعصر من الاستنارة مثل سلامة موسى وغيره، لم يمنعه من التوقف أمام نموذج نقيض يمثله هنا الشيخ السلفي ياسر برهامي.

وما من شك في أن جزءاً أساسياً من تناول تلك الوجوه في اللحظة الراهنة يعزز فكرة المواجهة التي باتت حتمية أمام أزمة الفكر العربي، فالنداءات الحارقة لتعزيز وجود «الآخر»، الغربي تحديداً، كدعوة تحضّ على التعايش وتحاول أن تتجاوز التاريخ الاستعماري الشائن انتهت إلى تكريس مفهوم التبعية، وإعادة إنتاج الأنماط المعرفية للمركزية الأوروأميركية بصور مختلفة وتحت شعارات جديدة جذابة مثل عولمة المعرفة التي انتهت إلى تعزيز التوحش الرأسمالي والحد من الهجرات الواسعة إلى أوروبا.

حدث هذا في وقت لم تسفر فيه دعوات عولمة المعرفة سوى عن مزيد من الجائعين جنوب خط الاستواء، ومزيد من الغرقى الذين يعبرون من قيظ الجنوب حالمين برفاه الشمال.

ومن هنا، ستظلّ مقولات الفكر العربي في حاجة إلى إعادة اختبار، لكن ذلك لن يحدث سوى بعد إعادة تعريف الآخر وفق احتياجاتنا وليس وفق الاحتياجات التي فرضها الآخر نفسه.

ويؤكد قرني أن في غمرة الصراع ثنائي القطبية تم كسر شوكة المشروع الوطني في العالم عموماً وفي العالم العربي خصوصاً. وظلّ لعشرات السنين يدعم تحالفات غير أخلاقية مع رأس المال من ناحية ومع التيارات الدينية المتشددة لتؤدي دوراً لا يمكن وصفه بأقل من الخيانة، فهي من ناحية كانت تؤدي دوراً في حماية تلك الأنظمة لقاء حصة في الحكم ولقاء استحقاقات الوجود، في مقابل ذلك قبلت تلك الجماعات باستخدامها كفزاعة للنموذج الحضاري «الأرقى» الذي كان من المفترض له أن يسود.

وكشفت تحولات تلك الصورة عن خراب تمثّل في كسر إرادة النخبة العربية بدرجات متفاوتة، وبكل أسف تحوّل دور تلك النخبة من كونها تمثيلاً لسلطة المثقف النقدي والنقضي في آن إلى كونها أدوات تبريرية لخطاب سياسي يفتقر إلى أدنى الروادع القانونية والأخلاقية.

ويمكن القول إن كتاب «وجوه في أزمنة الخوف» للشاعر محمود قرني وما تضمنه يقع ضمن المحاولات الجادة لإعادة التذكير بالنموذج المتقدم لدور النخبة، وتحفيز الانتباه للخطر الذي يقف على مذبحة نخبتنا العربية.