كل المناطق السنية غرب العراق وشماله تعد منطقة صراع معتادة بين الطوائف، لكن انطلاق عمليات تحرير الفلوجة الذي بدأ فجر الاثنين، يحمل حساسية أكبر، لا بسبب رمزيتها في القتال الشيعي- السني، بل أيضا لأن القوات الموالية لايران جرى منعها من المشاركة في المعارك الاستراتيجية هذه، بفضل تفاهمات سياسية في بغداد وشروط وضعها التحالف الدولي وواشنطن، حيث بقيت الفصائل على أطراف المدينة حتى هذه اللحظة على الأقل.
وتوالت خلال هذا الشهر انتصارات القوات العراقية والتحالف الدولي في الأنبار وصولا الى حدود سورية والسعودية والاردن، وتواصل المصادر العسكرية بث معلومات حول تقدم متسارع في الفلوجة التي تعد واحدة من اخطر المدن التي تسيطر عليها داعش، تحصينا وخبرة قتالية، وهي اختبار قاس للقوات الحكومية والطلعات الجوية للتحالف الدولي على المدينة التي لايزال فيها نحو ٥٠ الف مدني يمثلون اختبارا انسانيا عسيرا في هذه المعركة.
وتعتبر الفلوجة أشرس مدينة قاتلت الجيش الاميركي والقوات العراقية منذ ٢٠٠٣، لكنها أيضا أنتجت جماعات مسلحة موالية للسلطة ساهمت في طرد تنظيم القاعدة أو تحجيمه عام ٢٠٠٧، ومن ابرز رجالاتها وزير المال الاسبق رافع العيساوي الذي يعد سياسيا يمتلك مهارات تفاوضية وقيادية معروفة، وغضب عليه نوري المالكي نهاية عام ٢٠١١ ما أدى الى طرده واصدار احكام عديدة ضده، وهي الاجراءات التي اطلقت شرارة التحرك السني ضد بغداد والذي استغلت داعش ذروته ونقمته قبل عامين.
وتمتلئ وسائل الاعلام الموالية للميليشيات الشيعية بجمل تتوعد الفلوجة بالثأر، لكن قوات الجيش العراقي والحكومة تحاولان إنتاج اعلام مضاد يطمئن المدنيين العالقين في منطقة النزاع، ويلتزم بضمانات تمنع وقوع اي اعمال ثأرية، طبقا لنموذج ناجح نسبيا جرى تطبيقه في مدن الانبار الاخرى التي تحررت بنحو متسارع من داعش طوال الشهر الحالي.
وتبرز هذه المعركة، كنموذج لتنامي مشاركة المتطوعين السنة في الحرب ضد داعش، وقد كان عدد هؤلاء المتطوعين في كل البلاد لا يتجاوز ثلاثة آلاف قبل سنة، اما الآن فتتحدث بعض المصادر عن وجود نحو ٢٠ ألف متطوع سني يعمل بالتنسيق مع الجيش في المعارك الرئيسة، وقد يصبحون نواة لمشروع "الحرس الوطني" المتلكئ او قوة الدفاع الذاتي التي تطالب بها القوى السنية لصياغة شكل الادارة ما بعد تحرير مناطقهم من داعش.
وتشير المصادر الى مشاركة نحو ٥ آلاف متطوع من العشائر السنية في معركة الفلوجة، تلقوا تدريبات على ايدي المستشارين الاميركيين، تسندهم الاسلحة الثقيلة لقوات الجيش، وقد اختار الاميركيون ايضا الجنرال العراقي عبدالوهاب الساعدي المقرب منهم لقيادة القوات المشتركة، آخذين بعين الاعتبار ان الحشد الشيعي يثق بهذا الرجل منذ معارك تكريت العام الماضي.
ومثل كل مناطق الأنبار، طلبت واشنطن استبعاد قوات الحشد الشعبي من المشاركة المباشرة في المعارك منعا لأي حساسيات متوقعة، وبقيت فصائل المقاتلين الشيعة سواء الموصوفة بأنها موالية للنجف أو تلك المقربة من حرس الثورة الايراني، في محيط الفلوجة تقوم بالدعم والاسناد.
ورغم كل هذا يوجد انقسام شعبي وشعارات انتقام من المدينة، مقابل فريق عراقي واسع يدعو لجعل الفلوجة نموذجا لسياسة جديدة تصلح اخطاء الماضي، لا سيما أن مدينة كبيرة مثل الموصل تتفرج بقلق على ما يجري لانه سيمثل سيناريو أولياً لمعركة الموصل المرتقبة عاجلا ام آجلا. ورغم كل احتياطات حكومة حيدر العبادي وتحذيرات واشنطن، فقد قامت قوات من الحشد الموالي لايران محرجة الحكومة الى حد بعيد، بمحاولة تخريب "تفاهمات المعركة" عبر إطلاق صواريخ (ليست فعالة) كتبت عليها رموز طائفية، مع أن فعاليات دينية شيعية اطلقت تصريحات كثيرة تحذر من اي انتقام، وتعتبر هذه المعركة اختبارا سياسيا واخلاقيا يخص مستقبل العراق بأسره، ومستقبل الادارة والامن في كل المناطق التي تحررت او ستتحرر من داعش.