فجأة، ومن دون مقدمات سابقة، خرجت علينا الحكومة لتعلن تقدمها بثلاثة مشاريع قوانين هي: مجلس الدولة، وتعديل المحكمة الدستورية، وهيئة قضايا الدولة، في وقت يناقش المجلس قانون استقلال السلطة القضائية ماليا وإداريا عن السلطة التنفيذية، وهو أمر بقدر ما يبعث في نفسي الاستغراب لتوقيت طرح تلك المشاريع جملة واحدة يدعوني إلى طرح تساؤل في غاية الأهمية، وهو: لماذا تفعل الحكومة ذلك من دون كشف نصوص تلك المشاريع المصيرية حتى للسلطة القضائية المراد تغيير جزء من الكيانات التابعة لها؟!عندما أقول «قوانين مصيرية على الوطن والمواطن» فإنني أعني القضاءين الإداري والدستوري، وذلك لأنهما القضاء ذاته الذي أربك حسابات السلطة التنفيذية في قضايا الحريات، ومنها قضايا الجنسية وطلبات القضاء، وهما القضاء ذاته الذي وضع قرارات الحكومة في خانة الرقابة؛ كقضايا الرقابة على أعمال السيادة ومراسيم الضرورة التي فعلتها المحكمة الدستورية في الطعون الانتخابية خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
لا أحد منا كقانونيين يرفض فكرة إنشاء مجلس الدولة التي تأتي تفعيلا لنصوص الدستور بحسب المادة (١٧١) والتي تضع بعين الاعتبار في سبيل تطبيقها المادتين (169 و170) والتي تعد حلما يتعين تحقيقه عاجلا أو آجلا، لكننا لا نريد أن يتحول هذا الحلم الى كابوس يصيب قضاءنا في مقتل، بسبب ما كرسته نصوص المشروع المقدمة من الحكومة والتي أعلن وزيرها أنها «مجرد فكرة»، رغم أنها مكونة من (٩٢) مادة وتبلغ أحرفها ٧ آلاف كلمة!!عندما ينص المشروع الذي أسماه الوزير «بالفكرة» على إمكانية تعيين رئيس مجلس الدولة من عضو من ادارة الفتوى بدرجة مستشار في أول تشكيل له، ويكون رئيس مجلس الدولة بحكم منصبه رئيسا للمحكمة الادارية العليا، مع الاخذ بعين الاعتبار تبعية اعضاء الفتوى لمجلس الوزراء حاليا، فهي أفكار تضرب فكرة استقلال القضاء وحياديته، فكيف يولَّى أمر الرئاسة عنصر تابع للسلطة التنفيذية ويترأس أعلى دائرة قضائية؟ بل ويترأس ويتخذ أوسع القرارات داخل المحاكم الادارية؟ أليس في ذلك ضرب لمبدأ استقلال القضاء؟ أم أن الأمر أيضا يتوافق مع الدستور؟!ألا يخجل البعض وهو يدافع عن مشروع لم يقرأ نصوصه، ولا ينظر إلى التبعات التي سيلحقها على سير العدالة ويعلن تأييده لمشروع يسمح بتكريس فكرة التبعية والإشراف على المحاكم، بل ويتهكم على الانتقادات الموجهة لمشروع مجلس الدولة ويصف مواده بالإنجاز والتشريف ومقارنة نسخته المشوهة بقانون مجلس الدولة الفرنسي؟!ألستم من يناضل يوميا ويصرخ بأعلى صوته مطالبين باستقلال القضاء اداريا وماليا وبإبعاد يد السلطة التنفيذية عن القضاء وأجهزته، وتأتون اليوم وتبررون سلامتها على مجلس الدولة لمجرد أنها فكرة نص عليها الدستور، رغم أن مضامينها ونصوصها تخالف الدستور وتعصف باستقلال إحدى سلطاته؟! لا خيار أمام المجلس ولا الحكومة إن كانت النوايا صادقة إلا بإعطاء القضاء بكافة فروعه الاستقلال الكامل، بما فيه الاداري والمالي، وإلحاق مجلس الدولة بالسلطة القضائية، لكونه جزءا لا يتجزأ منها، والتأكيد على تمثيله في المجلس الأعلى للقضاء، ويتعين عليهما أن يرميا خلف ظهورهما نصوص التبعية والإشراف على القضاء من قبل السلطة التنفيذية، وأن يحتكما في سبيل ذلك الى رغبة الدستور في تحقيق الاستقلال الكامل للسلطة القضائية.
مقالات
مرافعة: مجلس الدولة... فكرة مشوهة!
24-05-2016