«السماء على نحو وشيك»
لأنها لو استكانت ماتت، فإن الكائنات الحية تقاتل في أصعب البيئات والظروف كي تؤمن بقاءها. ولأن الإبداع والأدب كائن حي فإنه يناضل في سبيل بقائه وفي سبيل أن يكون صوتاً مسموعاً يوثق للإنسان وبيئته ومجتمعه.إن ما تعيشه الشعوب العربية، منذ اندلاع انتفاضات ما سُمي بالربيع العربي عام 2011، من عنف وحشي، واقتتال وتمثيل في الإنسان فاق كل تصورات البشاعة والخراب، ليدعو لليأس، ويرسم لوحة ليس فيها إلا لون واحد هو اللون الأسود، بينما يأتي البكاء والعويل ليشكل إطاراً لهذه اللوحة. لكن، وبالرغم من بحر الآلام هذا فإن الحياة مستمرة، وهناك من يشتري اللحظة الحاضرة مراهناً على اللحظة المقبلة. وكم هو مهم التأمل في هذه الحالة، وكم هو عظيم الوقوف عندها.إن أحد أهم الوجوه الجميلة والموحية لمقاومة الإنسان العربي العظيم هو هذا الإصرار على الكتابة، وهذا الكم الكبير، وربما الكبير جداً من الإصدارات الأدبية، التي تكاد تأتي من كل البلدان العربية. لذا يجد أحدنا نفسه محاصراً بكتب تصل إليه كل يوم، وكتب أخرى يقرأ عنها كل يوم، وكتب أكثر تملأ رفوف المكتبات في معارض الكتب. لكن، ما يجب قوله هو أن الكم الأكبر من هذه الإصدارات لا يحقق شروطه الفني للجنس الذي يكتب فيه، مما يجعل العثور على كتاب لافت أمراً في غاية الصعوبة.
"السماء على نحو وشيك" روايتان قصيرتان وخمس قصص، للكاتب عزت القمحاوي، عن دار بتانة، هو أحد هذه الكتب المغايرة واللافتة. مجموعة قصصية تجري هادئة لتتسرب تحت جلد الروح، فيجد القارئ نفسه محشوراً في زاوية تأمل مصائر أبطال القمحاوي، وهو في الآن نفسه مجبر على تأمل مصيره الشخصي. في هذه المجموعة، يستخدم القمحاوي ميكروسكوباً إنسانياً، ليسلط الضوء من خلاله على أدق اللحظات الخاصة التي يمرّ بها الإنسان في اقترابه من عمر الخمسين. وهو في رصده لهذه اللحظة، وبأناة ومكر كبيرين يفتح عينَي القارئ على وعي متقدم حيال جسده وحيال فكره. وبذا يتحول القمحاوي من راوٍ لقصصه إلى دليل يأخذ بيد قارئه إلى مصيره.يكتب القمحاوي عن وجع المرض والموت، لينبه إلى ضرورة عيش اللحظة العابرة والاستمتاع بها. وهو في كتابته عن المرض يقدم مائدة من الحدث اليومي الطازج الذي قلما سلم منه أي قارئ. وربما هذا أهم ما يميّز كتابات القمحاوي، لأنه يكتب عن اللحظة الإنسانية الراعفة بحيواتها، وبما يجعل القارئ يعيش تلك اللحظة وكأنها لحظته الخاصة، علماً بأنه يكتب عن علاقة القرية بالمدينة/القاهرة، وكيف أن المدنية والتقنية الحديثة زحفتا على القرية لتغيّرا وجهها، ولم تتركا لها إلا ذكريات بطعم الأمس الطيب.عزت القمحاوي يدرك تماماً الشروط الفنية لجنس الرواية وهو يميّزه عن القصة، لذا فلحظة يعنون كتابه بـ"روايتان قصيرتان وخمس قصص"، فهو إنما يظهر بشكل جلي الفرق الجوهري والمهم بين الحدث الروائي والحدث القصصي، وكيف يمكن أن تكون أحداث "شكر الله سعيك" بمشاهدها الخمس، أقرب لرواية قصيرة منها للقصة، بالنظر لتعدد أصواتها، وحضور البيئة المكانية بشكل آسر، واتساع دلالة الحدث الاجتماعي بموت الأخ، وأخيراً انفتاح أفق الخاتمة على تسلم الابن لقياد الأسرة.منْ يعرف عزت القمحاوي، يكتشف أنه يكتب قصة أو رواية تشبهه تماماً. فالنص يسير بتؤدة وبلغة محسوبة تماماً، وربما هذه ميزة أخرى لافتة في كتابته. فمفردة عزت مفردة تخصه وحده، منتقاة وبسيطة حتى ليكاد القارئ أن يشعر بأن عزت يلم مفرداته من على أي رصيف أو مقهى أو جلسة أو غرفة مستشفى أو فندق.القراءة متعة، ومع الإبداع تصيرُ حياةً بسقف عالٍ.