درويش الكويت!
يدور في أزقة الحي صائحاً ومنادياً في الناس أن يعوا الحقيقة التي هم في غفلة عنها، وأن يدركوا أنفسهم قبل الغرق!يرى القادم القريب في حين لا يرى الآخرون سوى موطئ أقدامهم، لذلك يكاد يجف ريق فمه من كثرة التحذيرات مما سيعترض دروبهم من أسلاك شائكة وشِراك وحُفر ورمال متحركة، ستلتهمهم لا محالة إن هم مضوا في ذات الطريق! بالنسبة لهم هو ليس أكثر من درويش مسكين، وربما ظنوا أنه مختلّ عقلياً، ولكنهم على يقين أنه لا يؤذي أحداً، يلاحقه الأطفال في الشوارع من باب المتعة، ويردّدون معه بعض الجُمل التي يقولها، إلى أن يصيبهم التعب، ويتركوه يُكمل جولته المعتادة وحيداً!
هذا هو الدرويش!يحمل مصباحه في الليل ورابعة النهار ظناً منه أنه بذلك يُنير الدرب للمارة وعابري السبيل، قد يُكرمه البعض بالحلوى أو ببسيط العطايا، لكنهم لا يأخذون كلامه على محمل الجدّ.أحد هؤلاء الدراويش يجوب القلوب باحثاً عن إجابة لسؤال:«ليش صار البوق عادي؟!»«ليش صار الكذب عادي؟!»«ليش صرنا بكل شي إحْنا الأخير؟!»«وصار عادي؟!»ويستمر هذا الدرويش في مسيرته اليومية، بين الأحياء والقلوب الضيقة ينادي:«طائفة وحزب وتَجَمّعوحلف تيار... وقبيلةكل هذا ما يفيد»!يصل النداء إلى كل من ذكرهم إلا أنهم لا ينظرون إلى هذا النداء، إلا أنه صادر من فم «درويش» لا يستحق الوقوف عنده كثيراً، أو التأمل في أبعاده وعمقه، هذا النداء لم يصدر من زعيم طائفة، ولا أمين حزب، ولا ناطق باسم تجمّع ولا حلف ولا تيار، وهو أيضاً ليس صادراً من شيخ قبيلة، إنه ليس إلا قول درويش يُدعى «سامي الأنصاري»! شاعر يدور في الطرقات حاملاً حزمة همّه فوق ظهره، ويطوف بها في عزّ الهجير ليس لبيع بضاعة يود ترويجها، ولكن ليُري الآخرين ما هم عاجزون عن رؤيته، أو يرونه ولكنهم عاجزون عن رؤية تبِعاته! «هو بس الجيب اللي يفلّس؟!»«حتى قلوب الناس تفلّس!»والناس في غفلة عن ذلك القول، لاهُون ساهون، يلهثون وراء مزيد من المكاسب في الحياة، غير آبهين لما يخسرون من قلوبهم، إلا أن «الدرويش» لا يملّ من تذكيرهم:«هالدنيا حسبتها سهله»«تربح شي... تخسر شي!»ولكن أيها الدرويش الجميل كثير منا يكتشف في آخر المطاف فقط أنه لم يحسبها صح، وأن الذي ظنه القليل وخسره، يفوق في أهميته وقيمته الذي ظن أنه الكثير وربحه! فالحسبة ليست سهلة كما تظن أيها الدرويش، إلا أن الدرويش لا يعبأ بتعليقاتي الجانبية ويُكمل:«اسمع مني يا ابن الناس»«لا تغلط غلطة هالناس»«وتبيع لأيّ أحد نفسك»«باكر لما تملّ غيابك»«بتردّ تفتش بثيابك»«تلقا أصحابك»«تلقا أحبابك»«وتفتّش... ما تلقا نفسك»!سامي الأنصاري ليس شاعراً، إنه درويش المدن الحديثة، وحادي القلوب الآيلة للجفاف نحو مرابع المزن!