ألقى قرار حركة النهضة التونسية (الإخوان المسلمين) حجراً في المياه الراكدة لحركات الإسلام السياسي، التي أوغلت خراباً وتدميراً في هذه الأمة منذ أن فسحت لها بعض الأنظمة في الدول الإسلامية مكاناً في العملية السياسية لهزيمة خصومها من دعاة المدنية المطالبين بالدولة الدستورية الديمقراطية.

قرار "النهضة" الذي أعلنه رئيسها راشد الغنوشي بفصل النشاط الدعوي عن العمل السياسي، وتحول الحزب إلى حزب مدني هو تحول تاريخي – إذا كان جدياً وليس تكتيكاً انتخابياً- وربما يخرج العالم العربي من أزمته المستعرة التي يمثل الإسلام السياسي أحد أهم أسبابها، لو أخذت به كل جماعات الإسلام السياسي.

Ad

ليس غريباً أن يأتي التغيير من تونس، فهذا البلد لديه تجارب جدية وعميقة في الحداثة والنشاطات النقابية والعمالية، والسبق في منح المرأة حقوقها، وكذلك توجد فيه النسبة الأعلى عربياً في حجم الطبقة المتوسطة ونسبة ونوعية المتعلمين، ولكنه تأثر كبقية الدول الإسلامية بالضخ الهائل لفكر الإخوان المسلمين، وأدبيات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، التي كان يتم خلالها تجنيد الشباب للقتال ضد الروس في أفغانستان لخدمة الولايات المتحدة خارجياً، وداخل العالم العربي عبر استعانة الأنظمة بهم لضرب القوى المدنية والقومية وإزالتها من المشهد السياسي العربي.

العنف الأصولي المتوحش الذي نراه اليوم وضع بذرته الإخوان المسلمون عبر جهازهم العسكري "التنظيم السري" - 1939- وهو الذي اغتال القاضي أحمد الخازندار، ورئيس الوزراء محمود النقراشي، وقام بعدة عمليات إرهابية أخرى، ورسخ عقيدة ذلك العنف كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب الذي طرح فيه باكورة مصطلح "التكفير" الذي أصبح لاحقاً مرجعية كل التنظيمات الأصولية الإرهابية، وعندما التقى هذا الفكر مع التزمت الديني لدى بعض الجماعات في الجزيرة العربية تشكلت تنظيمات التخلف الأصولي الدموية التي ترفع راية الإسلام وتدمر فعلياً المسلمين حالياً.

العالم الإسلامي، وتحديداً العرب منه، يدفعون ثمناً غالياً للإسلام السياسي منذ سنوات طويلة، فقد تحالف في فترة مع الأنظمة لوقف تطورها الطبيعي نحو المدنية والديمقراطية، ودمر الإسلام السياسي أيضاً الربيع العربي في عدة دول عربية، ففي مصر أدى انقضاض الإخوان المسلمون على السلطة إلى فزع المجتمع المتنوع والمنفتح هناك، والذي استجار بالعسكر مرة أخرى ليتخلصوا منهم، وفي سورية ومن اليوم الأول للثورة السورية كان الطاغية بشار الأسد يريد أن يستغل مشهد تعرضه لهجمة من الإسلام السياسي والإرهابيين ليقف العالم معه، وبالفعل حقق له الإسلاميون ما يريد عبر استبدال الجيش الحر بجيش الإسلام والنصرة... إلخ، في حين تحول "ربيع ليبيا" إلى "صوملة ليبيا" بسبب إمارات الإسلام السياسي، وفي اليمن يتصارع الإسلام السياسي السني والشيعي والقاعدي وتلعب بهم الأيادي الإقليمية والخارجية لخدمة مصالحها.

بل إن الخطر الإيراني لم يكن ليستفحل ويجد أنصاراً لخططه من داخل مكوناتنا الاجتماعية لو كنا دولاً مدنية لا تخلط العقيدة بالممارسة السياسية، وبذلك كنا عززنا الهوية الوطنية مقابل خطاب التجييش الطائفي الإيراني للمكون العربي الشيعي، ولكان ذلك نموذجاً لكل الأقليات التي تدمر الأمة العربية اليوم وتفتتها.

حقيقة أن الإسلام السياسي ارتكب خطايا بل جرائم بحق أمته تجعلنا في أصعب وضع الآن كمسلمين في العالم، وتتعرض منطقتنا للفظائع والحروب بسببها، لكن ذلك لا يمنع اعتبار أن قرار حركة النهضة تاريخي... ولكنه أتى بعد أن هرمت الأمة وتكاثرت الضباع التي تنهشها.